الاستعلاء التكنوقراطي والحاجة إلى السياسة

الاستعلاء التكنوقراطي والحاجة إلى السياسة

المغرب اليوم -

الاستعلاء التكنوقراطي والحاجة إلى السياسة

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

يصوّر الاستعلاء التكنوقراطي السياسة على أنها عمل بدائي، عاطفي، وغير عقلاني، عالق في دوامة الصراعات والمصالح الشخصية. ويروّج التكنوقراطيون، أي كهنة نظام الحكم القائم على الخبرة التقنية والحلول المدفوعة بالبيانات والنماذج الحسابية لفكرة أن الحلول العقلانية الصرفة، قادرة على تجاوز «فوضى» السياسة وترويض صراعاتها وقيادة المجتمعات نحو التقدم بكفاءة ومن دون ضجيج.

منذ الثورة الصناعية وصولاً إلى الطفرة العلمية ما بعد الحرب العالمية الثانية، تجذّر هذا الاستعلاء التكنوقراطي تجاه السياسة، وبرز التكنوقراطيون لاعبين أساسيين في تشكيل الحوكمة الحديثة عبر الحلول العقلانية، في مقابل تصوير المجال السياسي عائقاً يعطّل التقدم.

أما الأسس الفكرية لهذا الاستعلاء، فتعود إلى العقلانية في عصر التنوير والفلسفات الوضعية التي رفعت من شأن العلم التجريبي مصدراً أعلى للحقيقة، في مقابل علوم اللاهوت، وهمّشت السياسة بوصفها مجالاً للانفعالات والصراعات الذاتية. ومع صعود نظريات الأنظمة (Systems Theories)، وتحوّل الاقتصاد علماً رياضياً، وظهور الإدارة الحديثة، ترسخت فكرة أن المجتمعات تمكن إدارتها كأنظمة ميكانيكية، قابلة للقياس والتحليل من خلال المؤشرات والأرقام. على الصعيد المؤسسي، ساهمت العولمة وتوسّع البيروقراطيات والمنظمات العابرة للحدود في تمكين النخب التكنوقراطية وإضعاف الأصوات السياسية والسياقات المحلية.

فمن فشل الخطط الخمسية الجامدة التي اعتمدها الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى نبوءات الخبراء الاقتصاديين وبياناتهم التي ما حالت دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، يمتلئ التاريخ بأمثلةٍ تبيّن محدودية الاعتماد على المنطق التكنوقراطي وحده، أكان لناحية التخطيط المستقبلي أو لناحية تحليل الواقع الراهن.

في المثال الأخير، استند كثيرٌ من دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى التوقعات الاقتصادية للخبراء، معتقدين أن الحجج العقلانية بشأن سوق العمل وتحرير حركة الأفراد والسلع، ستقنع الرأي العام بالبقاء. غير أنّ موجةً من المشاعر القومية وخليطاً من العوامل الثقافية والإنسانية التي تشكّل القلب النابض للقرارات السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى انعدام الثقة بـ«النخب»، كانت أقوى من كل الحسابات الرقمية.

الثابت إذن في ضوء تجربة «بريكست» أن تأطير التحديات المجتمعية كقضايا تقنية بحتة، والإيغال في تهميش الطبيعة السياسية للحوكمة، والتقليل من أهمية التوفيق بين المصالح والقيم والهويات المتعارضة، تفاقم استنفار العواطف والآيديولوجيات والصراعات، بدلاً من أن تهدئ منها. وما صعود اليمين السياسي في العالم اليوم، في جانب من جوانبه الأساسية، إلا ردة فعل على مسار تاريخي هيمنت فيه التكنوقراطية على السياسة التقليدية، وهمَّشت نخبُها الهويات الثقافية والمحلية لصالح ما عدّته حلولاً «عقلانية» قائمة على البيانات والخبرة التقنية. خلق هذا المسار، المرتبط بالعولمة وبروز المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، شعوراً بالاغتراب لدى شعوب كثيرة رأت في هذه السياسات تجاهلاً لاحتياجاتها وهوياتها، وأوقعها في شباك الخطاب اليميني الشعبوي والقومي. وأحيت هذه الردة الهويات الثقافية والدينية تحت ستار الدفاع عن السيادة الوطنية في ظل اختلال خطير في التوازن بين الكفاءة التقنية للإدارة والشرعية الشعبية للسياسات المقترحة.

لا ينحصر العطل المعرفي الأساسي في العقل التكنوقراطي في أي نقص محتمل في البيانات أو في محدودية الخبرة، بل يكمن في العجز المتأصّل عن استيعاب الطبيعة المعقّدة للسلوك البشري وتركيبة المجتمعات. فسلوك البشر يتشكّل بفعل منظومةٍ متداخلة من المعتقدات والقيم والعوامل الثقافية؛ ما يجعل قياسه أو التنبؤ به بدقة بالغة أو تفادي تبعاته بيقين كامل أمراً شبه مستحيل. إذّاك، غالباً ما يجد التكنوقراطي نفسه أمام ظواهر لا تطيق الاختزال إلى أرقام ولا تنقاد لمنطقٍ صارم.

وعليه، فإن إعادة الاعتبار إلى السياسة عندنا ليست ترفاً، بل ضرورة تفرضها الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية المعقّدة وتداخل مراكز التأثير في الشرق الأوسط.

والحال، تظلّ السياسة هي الأفق الأوسع الذي يجمع تحت مظلّته المصالح المتعددة والهواجس المتناقضة والتوترات التاريخية والاختلافات الثقافية والاعتبارات الاستراتيجية، التي لا يمكن اختزالُها في معادلاتٍ رقمية أو مؤشرات أداءٍ لقياس النجاح والفشل.

وإذ تبرز الحاجة الماسة إلى آليات الحوار الوطني، واستقطاب قطاعات الاقتصاد والمجتمع المدني والنخب الثقافية، في سوريا ولبنان والعراق والسودان واليمن وغيرها؛ بهدف بلورة رؤى مشتركة تتجاوز الأطر القطاعية الضيقة، تبرز الحاجة إلى تعزيز دور السياسة بهدف تفعيل عملية تفاوضٍ مستمرة بين مختلف الأطراف الفاعلة في هذه الدول، والدفع نحو بناء توافقاتٍ أكثر مرونةً وشرعيةً.

لا استقرار بلا احتضانٍ للسياسة وترسيخ ثقافةٍ سياسية تسمح باستيعاب المتغيّرات الإقليمية والدولية، وتمهّد لنقل دولنا من مجرّد «إدارة أو استثمار للأزمات» إلى «قيادة للتحوّلات» وصناعة الغد المستدام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستعلاء التكنوقراطي والحاجة إلى السياسة الاستعلاء التكنوقراطي والحاجة إلى السياسة



GMT 20:25 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

المؤبد

GMT 20:23 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو السعودي

GMT 20:21 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

اللبنانيّون حين يراجعون وحين لا يراجعون

GMT 20:16 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أزمة «بي بي سي» الدائمة

GMT 20:14 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب جونيور ــ فانس... رئاسة أميركا 2028

GMT 20:12 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلمة المتحف والتحرش الديني وهداية السائح

GMT 20:05 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أزمة «بي بي سي»

GMT 20:02 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

سيناريو المستشار مسعد

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 16:24 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

أربع دول عربية ضمن 16 بؤرة جوع في العالم
المغرب اليوم - أربع دول عربية ضمن 16 بؤرة جوع في العالم

GMT 19:30 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنانة زينة تعلّق على صعوبات مسلسلها "ورد وشوكولاتة"
المغرب اليوم - الفنانة زينة تعلّق على صعوبات مسلسلها

GMT 04:12 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 00:44 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الممثلة ميريل ستريب تتحدّث عن معاناة المرأة بشكل عام

GMT 03:53 2017 الأحد ,08 كانون الثاني / يناير

"دولتشي أند غابانا" تطرح مجموعتها الجديدة لعام 2017

GMT 16:35 2023 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 5.6 ريختر يضرب شرق روسيا

GMT 10:12 2023 الأربعاء ,10 أيار / مايو

مقتل صحفي فرنسي في قصف روسي في شرق أوكرانيا

GMT 14:51 2022 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

بيدري نيتو يغيب عن كأس العالم 2022 بسبب الإصابة

GMT 21:41 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

أقوى خلطة طبيعية لتطويل الشعر بوقت قياسي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib