بين فينة وأخرى، يطلع صوت يراجع موقف صاحبه من الحرب اللبنانيّة التي نشبت عام 1975 واستمرّت حتّى 1989. وكان رئيس الحكومة نوّاف سلام آخر الذين فعلوا بقوله، قبل أيّام، إنّ جيله حمّل لبنان أكثر ممّا يحتمل.
والمراجعة تنمّ عن ثقافة سياسيّة تستحقّ التحيّة، وتنطوي على روحيّة نزيهة عبّر عنها القدامى بقولهم إنّ «الرجوع عن الخطأ فضيلة»، سيّما وأنّ سلام أقرّ بخطأ أو خطأين آخرين في حديثه إلى الزميل ريكاردو كرم. بيد أنّ المراجعة تخسر بعض قيمتها وبعض تأثيرها حين يلازمها هاجس الموازنة بين خطئـ«نا» وخطأ «غيرنا». ففي الحالة هذه يقضم فعل المقارنة، وهو هنا وثيق الصلة بالنزعة السجاليّة، شيئاً من فعل المراجعة، وهو كشف حساب ذاتيّ وضميريّ.
لكنّ الأدعى إلى الانتباه أن تتواصل المراجعة المتقطّعة لحرب 1975 فيما يعيش اللبنانيّون حاليّاً فصلاً مهولاً من الحرب مقروناً بانعدام المراجعة، كلّ مراجعة.
وقد يقول قائل إنّ الوقت لم يحن بعد لإلقاء «حزب الله» والدائرين في فلكه نظرة نقديّة على «حرب الإسناد» ونتائجها. لكنّ ضخامة المأساة التي نجمت عن الحرب المذكورة تُغري بحرق المراحل أو استعجالها، بينما الإنكار والمكابرة اللذان يعتمدهما الحزب يوحيان بانعدام كلّ مراجعة، لا في الحاضر فحسب، بل في المستقبل أيضاً.
وهذا ما يسمح بالتساؤل عن وجود علاقة ما بين مراجعة ما حصل في 1975 ورفض كلّ مراجعة لحرب أمرّ وأقسى حصلت قبل أشهر قليلة.
فأغلب الظنّ أنّ ثمّة ضعفاً يقيم في مراجعات الحرب التي اندلعت قبل نصف قرن، وأنّ الضعف هذا إنّما يوفّر أحد المحفّزات لتكرار الحروب على نحو يجمع بين تعاظم الرداءة والخطورة والأكلاف وبين انعدام كلّ نقد للذات وأفعالها.
فمراجعة الحرب، إذا أريدَ لها أن تؤسّس وعياً يمنع الحروب، كان عليها أن تراجع مسائل الحرب نفسها، وأن تستخلص منها النتائج التي تثقّف الشعب عموماً وتربّي أجيال متعلّميه على نحو خاصّ.
ذاك أنّ القتل والموت والدمار أسباب كافية للاشمئزاز من الحروب، لكنّها ليست كافية لتأسيس الوعي البديل المطلوب، خصوصاً وأنّنا حين نتحدّث عن الحروب في لبنان فإنّما نتحدّث عن حالة حربيّة باتت أشبه بطريقة حياة، وليس عن حرب بعينها بدأت بتاريخ محدّد وانتهت بتاريخ محدّد.
وهنا لا بدّ من استرجاع القيم والمعاني التي غالباً ما تكون الضحيّة الأولى للحرب، فيما يكون التوكيد عليها بمثابة اللحمة التي تمتّن مناهضة الحروب وتحوّلها إلى ثقافة شائعة.
وفي الحالة اللبنانيّة لا يزال الاتّفاق على معنى الوطنيّة مدخل الحالة الحربيّة أو مدخل إقفالها. ذاك أنّ الامتناع عن ترسيم حدود الوطنيّة تلك يجعلها عرضة للالتباس وعدم التمييز بينها وبين التضامن مع قضايا قد تكون محقّة إلاّ أنّها تقع خارج دائرة الوطن وما يُفترض أنّه سياساته المُلزمة. وبهذا التداخل تغدو الوطنيّة مصدراً لشقّ الجماعة الوطنيّة إلى جماعات أهليّة متناحرة بدل العمل المفترض على توحيدها. ونحن نعرف، بالتجارب الكثيرة التي عشناها، أنّ ذاك التداخل في القضايا إنّما يواكب تداخلاً أشدّ خطورة في الدول والمصالح.
كذلك تُعدّ الحرّيّة أولى القيم التي أطاحتها الحرب، والتي لا يُرَدّ على الحرب كما يُردّ بتوكيدها. فالتعدّد، السياسيّ والحزبيّ كما الإعلاميّ والنقابيّ، الذي كان قائماً قبل 1975 هو ما حلّت محلّه آيديولوجيا رسميّة، محروسة بالاجهزة الأمنيّة، تتصدّرها «عروبة لبنان» وتمجيد الصمود وباقي المعزوفة المضجرة.
وقد أطاحت الحرب قيمة أخرى كثيراً ما كرهها المحاربون، تبعاً لانتسابها إلى مناهضة العنف، وهي كون البلد، قبل 1975، نافذة على العالم الأكثر تقدّماً. وهذا ما سبق أن أتاحه، فضلاً عن توافر الحرّيّات، تعليم عصريّ وإجادة للّغات واكتساب للمهارات التي يتطلّبها السوق وصناعة نشرٍ تترجم ما يتداوله العالم من أفكار وإبداعات.
والحرب لم تكن بمنأى عن تصديع فكرة الازدهار واحتمالات التضافر حوله بين جماعات الوطن المتباينة طائفيّاً. ورغم اختلالات كثيرة عرفها اقتصاد زمن السلم، بقي اقتصاداً مزدهراً أتاح نشأة طبقة وسطى عريضة ومتوسّعة، وأُدرج في خانة الاقتصادات الأوروبيّة الجنوبيّة.
لكنْ يبقى الأهمّ في مراجعة الحرب وثقافتها، وفي تعزيز مناعة المجتمع حيالها، تطوير ثقافة للسلام وللتكريه بالعنف من أيّ نوع كان. وهذا ما استبعدته، ولا تزال تستبعده، ثقافة لطالما استولت على لبنان، تمجّد المقاومة والقتال وتتغنّى بالموت والدم.
هذه القيم والمعاني هي ما يُفترض بالمراجعة وضعها في مواجهة الحرب وطريقة الحياة الحربية. ولأنّ المراجعات المبعثرة لم تفعل هذا، كان لتقصيرها أنّ مهّد للحرب الراهنة، متضامناً مع أسباب أخرى سياسيّة وإقليميّة كثيرة ومعزّزاً لها.
وفي حال الامتناع عن المراجعات الجذريّة لحروب الأمس، سوف تبقى الحروب احتمالاً كبيراً يلوح في أفق الغد، إن لم يكن في خارج الحدود ففي داخلها. أمّا النخبة التي يُفترض بها أن تطلق المراجعة الجذريّة، فسوف تمضي في التجرّؤ على ما حدث وفي الاندهاش بما قد يحدث.