الترمبية أنا المسرح والبطل والضوء

الترمبية... أنا المسرح والبطل والضوء

المغرب اليوم -

الترمبية أنا المسرح والبطل والضوء

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

تربك السياسات الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترمب أهم عواصم العالم. خصومه يرونه خطراً لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وحلفاؤه لا يثقون باستمرارية التزامه. فالرجل لا يتحرك ضمن خرائط مألوفة، بل يرسم خرائطه الخاصة على إيقاع غرائزه السياسية، وموازين القوى التي يفكك ألغازها بحدسه قبل أن يقرأها في ضوء تقارير الاستخبارات، وملخصات مستشاريه.

هو رجل صفقات، لكنه لا يخشى الحروب الخاطفة إن ضمن أن القوة تسرِّع الإقرار بشروطه. يقود وفق قاعدة «أميركا أولاً»، لكن من دون انعزالية. يريد أميركا الموصولة مع العالم، لا المعزولة عنه.

من أفريقيا وصراعاتها وثرواتها، إلى أوروبا وتلكئها بشأن مسؤولياتها الأمنية، إلى الشرق الأوسط وسياسات التنمر المتبادل بين إسرائيل وإيران، تبرز مساعي ترمب لإعادة هندسة النظام الدولي لا الانسحاب منه. فهو لا يرفض قيادة العالم، بل يريدها على مقاسه: بلا أعباء مجانية، ولا تحالفات موروثة، ولا مؤسسات دولية تقيد يديه. إنه يُعيد صياغة مفهوم الهيمنة الأميركية، ولا يتخلى عنه.

وفّرت حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران فرصة نادرة لتحليل عقيدة الرئيس الأميركي في السياسة الخارجية. فاجأ الجميع بضربة استراتيجية غير مسبوقة للمشروع النووي الإيراني. رغم مقتِه للحرب، لم يخفِ من توظيف قوة بلاده العسكرية بشكل مدروس وشديد الفاعلية، وعلى نحو يعفيه من التورط في حروب طويلة الأمد، أو مغامرات وأوهام الصقور بشأن تغيير الأنظمة، وبناء الأمم. دعا سريعاً إلى وقف إطلاق النار، مراهناً على توظيف العسكرة لخدمة الاتفاق مع إيران، وتحقيق «الصفقة الكبرى» في الشرق الأوسط، وتوسيع إطار اتفاقات السلام والتطبيع.

إنَّها مقاربة تتداخل فيها عناصر القوة والغريزة. فما يريده هو الإتيان بإيران إلى الطاولة بشروط، يحددها هو. مخاطرة محسوبة تجعل من الحرب أداة تفاوض، لا رافعة لتصدير مبادئ، وقيم.

من جهة أخرى ضغط ترمب بقسوة علنية غير مسبوقة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آمراً إياه بإجهاض هجوم على هدف في طهران كانت الطائرات قد أقلعت لتنفيذه بعد وقف إطلاق النار. لا حرية تصرف حتى لأقرب حليف لأميركا خارج المسار الاستراتيجي الذي يحدده ترمب.

لا يهمه كثيراً من يجلس على الطرف الآخر، طالما أنه يعترف بسطوة أميركا، وبترمب بوصف أنه وسيط لا غنى عنه. هذا ما عكسته بالفعل تصريحات مسؤولين إيرانيين، تمسكوا، حتى بعد ضرب المفاعلات النووية، بما سمُّوه الضمانات الأميركية الراعية للتفاوض!

خارج إيران، كرس النمط نفسه في العلاقة مع أوروبا، ضغط على كبار أعضاء حلف الناتو حتى رضخوا ووافقوا في قمة لاهاي الشهر الفائت على رفع الإنفاق العسكري إلى 5 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2035، وهو إنجاز لم يحققه أي رئيس أميركي منذ نصف قرن.

يرى خصومه أن وصفه للاتفاق بأنه انتصار عظيم إنما يعكس سعيه لإبراز إنجازاته الشخصية، وتركيزه على المكاسب المباشرة ولو على حساب الوحدة طويلة الأمد للحلف. بيد أن هذا الإنجاز الترمبي يبرز أيضاً جانباً أكثر جدية من عقيدة الرجل، وهو إصرار أميركا الثابت على تعزيز نفوذها الاستراتيجي في العالم من دون أن تتحمل أكلافاً تراها غير عادلة.

في أفريقيا، رعى ترمب اتفاقاً بين الكونغو ورواندا، مزاوجاً بين الأمن الإقليمي في أفريقيا الوسطى والمصالح الاقتصادية الأميركية، وضمان الاستثمارات في قطاع المعادن في الكونغو، في إطار مساعيه للحد من النفوذ الصيني. يجسد الاتفاق إذن جوهر «الترمبية» في السياسة الخارجية، من خلال المزج بين البرغماتية الاقتصادية، والدبلوماسية المسنودة بالقوة، والتهديد بالعقوبات، والسعي لتعزيز صورة ترمب بوصف أنه وسيط سلام عالمي، مع ميل صارخ للوساطة الأميركية المباشرة على حساب المؤسسات الإقليمية، أو الدولية.

منتقدو الترمبية يرون في عقيدته فائضاً استعراضياً. فهو يميل، بحسبهم، إلى الإعلانات الكبرى من دون اهتمام كافٍ بالتفاصيل التنفيذية، مما يجعل سياساته سلسلة من عروض الألعاب النارية المبهرة في توهجها، ولكنها الفاقدة لأي تأثير طويل الأمد.

الاتفاق الإبراهيمي، على الضفة الأخرى، يظهر أن الترمبية تتجاوز الاستعراض إلى تحقيق نتائج ملموسة، ومستدامة في مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي والثقافي والسياحي. كما أعاد الاتفاق تشكيل جانب مهم من تحالفات الشرق الأوسط على نحو يعكس رؤية جيوسياسية بعيدة.

يرسل سلوك ترمب برسائل واضحة لخصوم الولايات المتحدة، لا سيما الصين وروسيا، وهي أن واشنطن قادرة على الفعل السريع والمؤلم من دون الغرق في الرمال المتحركة، وأن أميركا حين تعود إلى الطاولة فإنها تعود قوية، ومتعطشة لانتصارات تغيير الواقع الدولي برُمّته.

فترمب لا يتصرف بوصف أنه قائد في نظام دولي قائم، بل على أنه صانع نظام بديل يتمحور حوله شخصياً، وحول مدرسة يريد لها أن تستمر من بعده. يريد لأميركا أن تأخذ علماً بأن العالم يتغير. فلا التزامات دائمة، ولا مبادئ كونية مفتعلة، إنما صفقات، وضغوط، وضربات دقيقة، تدار بها مروحة واسعة ومعقدة من المصالح. العالم مسرح، وترمب هو الممثل الأبرز على خشبته. أما الباقون، فعليهم أن يتكيفوا مع دور الرجل الذي لا يرضى إلا بأن يكون العريس في كل زفاف.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الترمبية أنا المسرح والبطل والضوء الترمبية أنا المسرح والبطل والضوء



GMT 19:43 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

شاعر الأندلس لم يكن حزيناً: ضاحكاً مرحاً

GMT 19:42 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

قيادات مشكوك في قدراتها!

GMT 19:38 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

بلدان تحلو فيها تمضية العمر

GMT 19:36 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

العهد الأموي كما قرأه الريحاني

GMT 19:30 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

الفرنسي الذي تحدى ماركس

GMT 19:22 2025 الجمعة ,08 آب / أغسطس

«قوم اقف وانت بتكلمني»!

إستوحي إطلالتك الرسمية من أناقة النجمات بأجمل ألوان البدلات الكلاسيكية الراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 03:58 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

مجلس النواب المغربي يصادق على قانون التصفية بإجماع الأعضاء

GMT 17:18 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

توشيح الصحفي حسن الحريري بوسام ملكي

GMT 16:04 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

تعاقد جديد للوداد قبل الميركاتو الشتوي

GMT 17:28 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

شقيق الملك سلمان بن عبدالعزيز يحلّ بالعيون في رحلة صيد

GMT 07:59 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

عبير الأنصاري تُشيد بإطلالة مي عمر في مهرجان الجونة

GMT 13:58 2018 الجمعة ,14 أيلول / سبتمبر

احتجاجات في جرسيف بسبب هدم ثلاث منازل

GMT 03:29 2018 الجمعة ,07 أيلول / سبتمبر

أردوغان وسياسات المباغتة

GMT 22:07 2018 الجمعة ,06 تموز / يوليو

لطيفة تصدم جمهورها بإطلالة "الريش"

GMT 04:54 2018 الخميس ,14 حزيران / يونيو

وفاة شاب بعد اصطدم سيارته بشجرة في أيت ملول
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib