زمن بورقيبة التونسي

زمن بورقيبة التونسي

المغرب اليوم -

زمن بورقيبة التونسي

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

أسماء وُلدت في رابعة ظهر التاريخ. سطع ضوء في سماء الوعي، وتحرك التغيير في مساحات واسعة من العالم. الاستعماران البريطاني والفرنسي، امتدا في قارتي آسيا وأفريقيا، وبعد الحرب العالمية الأولى، اتخذ التاريخ منحنيات سياسية كبيرة. البلاد العربية التي غرب عنها العصر العثماني، صار جزء منها تحت الهيمنة الفرنسية والبريطانية والإيطالية، بتوصيفات مختلفة. استعمار إيطالي مباشر في ليبيا، وفرنسي في الجزائر، وحماية فرنسية في المغرب، وحماية بريطانية في كل من مصر والعراق والخليج العربي. انطلقت معارك الاستقلال في هذه البلدان. منها ما كان عسكرياً، ومنها ما كان سياسياً مع مواجهات عسكرية مختلفة العيار. القرن العشرون وُلد بقسمات جديدة فوق الأرض، وفي الفكر والثقافة والعلم، والقوى السياسية والعسكرية. صار للآيديولوجيا أوراق في شجرة القرن الوليد. حكم الأتراك بلداناً عربية تحت مسمى الدولة العثمانية قروناً طويلة، امتدت من القرن السادس عشر، إلى بداية القرن العشرين. كل منطقة كانت ولاية (إيالة) يحكمها والٍ عثماني، يُعيَّن من الباب العالي في إسطنبول. بعد انهيار الدولة العثمانية، هيمن الفرنسيون والبريطانيون على المنطقة العربية، بعد انتصارهما في الحرب العالمية الأولى. بدأت بعد ذلك مرحلة استقلال بعض الدول العربية، ووجد العرب أنفسهم أمام وضع جديد ما عرفوه من قبل. الدولة هي الكيان الذي يشكّل الوعاء السياسي الذي يجمع سكان البلد المستقل. النمط الأوروبي للدولة، كان النموذج الذي أنتجه من تولى قيادة الأوطان المستقلة، إلى استنساخه وبنائه في واقعهم الجديد. قامت كيانات تبنت النظام الملكي، وأخرى تبنت النظام الجمهوري، لكن الموروث الاجتماعي القديم، ظلَّ فاعلاً بقوة في مفاصل التكوينات العربية الجديدة. القبلية والطائفية والجهوية والأمية والفقر، وغياب الخبرة السياسية والإدارية، أعاقت وجود النسيج الاجتماعي الأساسي المكون للدولة، وهو (الأمة) التي يربطها الحبل الوطني الجامع لكل المواطنين الذين يعيشون على أرضها. في بعض الدول العربية الوليدة، بقي الموروث الاجتماعي، القديم الذي ساد في زمن ما قبل الدولة المستقلة، فاعلاً بقوة وأعاق عملية تحقيق الهوية الوطنية الجامعة للكيان السياسي الجديد، وهي الأمة الواحدة.

الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، خاض معركة سياسية طويلة مع المستعمر الفرنسي لبلاده. درس في المدرسة الصادقية بتونس، ثم توجه إلى باريس، حيث درس القانون والعلوم السياسية. عاد بعدها إلى تونس ومارس المحاماة، واندفع في العمل السياسي. سجنه المستعمر الفرنسي وهرب إلى مصر سيراً على الأقدام لعرض قضية وطنه المحتل، كما زار الأمم المتحدة للهدف ذاته. أعاد تأسيس الحزب الدستوري التونسي، واستمر في مواجهته المستعمر الفرنسي. في سنة 1956 تولى رئاسة الوزارة في المملكة التونسية، التي كانت تتوارث عرشها بايات العائلة الحسينية من أصول تركية. في سنة 1957 عُيّن رئيساً للدولة بعد إنهاء حكم البايات وإعلان الجمهورية، وإنهاء الوصاية الفرنسية.

الحبيب بورقيبة قاد الحزب الدستوري التونسي، وكان الحزب الواحد الذي حكم تونس طيلة زمن حكم بورقيبة، وجعل من هذا الحزب قوة لتأسيس الدولة التونسية الحديثة، التي تقوم على تحقيق كيان (الأمة) الموحدة. المناضل المثقف الذي اندمج في المجتمع الفرنسي، وتزوج منه أم ولده الوحيد الحبيب الابن، وتمكن من اللغة الفرنسية، وغاص في الفلسفة والقانون والسياسة، وعاش في خضم الحداثة والتنوير والثقافة الفرنسية. منذ السنة الأولى التي ترأس فيها الدولة، كان همه تكريس هوية الأمة، وتأسيس تونس الجديدة الحديثة. وظَّف الجزء الأكبر من ميزانية الدولة في التعليم، وسخَّر جهده متنقلاً في أنحاء البلاد مخاطباً الرجال والنساء مباشرة، محرضاً على إلغاء مجتمع القبائل (العروش)، وتأسيس مجتمع الأمة التونسية الواحدة الموحدة. تحرير المرأة عدَّه الحبيب بورقيبة شرطاً أساسياً لتأسيس المجتمع الجديد، وفتح أمامها باب التعليم والعمل، ونظَّم عملية الطلاق بأن تتم أمام المحاكم. وتحدث في خطابات كثيرة عن مسؤولية الرجال في النهوض بالمرأة، وتسهيل انتقالها من ظلام الماضي، إلى آفاق ضوء المستقبل. كان بورقيبة صريحاً ومباشراً في قضية الحرية السياسية والديمقراطية، وقال إن ذلك لا يمكن أن يكون في مجتمع يغرق في مستنقع الأمية والجهل، وإن النهضة الاجتماعية الشاملة بالتعليم وتحرير المرأة وتحقيق العدل، هي الشروط الضرورية للوصول إلى ذلك الهدف المنشود.

تمكن من إنجاز بنية تحتية حديثة في كل أنحاء البلاد، رغم محدودية الإمكانات المالية للبلاد. تحدث عن أهمية الوعي المهني، وقال إن الحرفيين والمزارعين عليهم تطوير قدراتهم، بالتعليم والإلمام بما يضيفه الدارسون والباحثون في كل المجالات. نجح في تجسيد الدولة الأمة، وقاد بلاده إلى أفق الحداثة والتنوير.

قيل الكثير عن سياسات بورقيبة الداخلية والخارجية. هناك من وصفه بالديكتاتور المستبد والرجعي، وأدانوا اغتياله الزعيم صالح بن يوسف، وقفزاته السياسية والاقتصادية التي كلفت البلاد خسائر كبيرة. لكن رؤيته السياسية العقلانية الواقعية، وبخاصة في القضايا العربية، مثل القومية والوحدة العربية والقضية الفلسطينية، اتسع الحديث عنها الآن، وارتفعت أصوات تتحدث عن زمن بورقيبة التونسي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زمن بورقيبة التونسي زمن بورقيبة التونسي



GMT 16:09 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

حرب «عاجل» والغبراء

GMT 16:08 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

الحرب الإسرائيلية ــ الإيرانية إلى أين؟

GMT 16:07 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

عن العقل العربي الغائب

GMT 16:06 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

ترمب... يمتطي حصان الحرب

GMT 16:05 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

المشرق العربي... البولندي

GMT 16:03 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

تأجيلُ مؤتمرِ سلامٍ مؤجَّلٍ

GMT 16:02 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

حسابات توازن القوى

GMT 16:01 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

الإيمان والمستقبل...الدين وبناء السلام

هيفاء وهبي تتألق بتنسيق اللون الزهري والأسود مع لمسة الذهبي

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 14:07 2025 الأربعاء ,18 حزيران / يونيو

توم كروز يحصل على أول جائزة أوسكار فخرية في مسيرته
المغرب اليوم - توم كروز يحصل على أول جائزة أوسكار فخرية في مسيرته

GMT 02:17 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

القبعات القش تتصدر قائمة أحدث صيحات الموضة

GMT 05:46 2020 الإثنين ,27 كانون الثاني / يناير

شركة "لفيت" تنافس بأقوى سيارات الدفع الرباعي في العالم

GMT 10:29 2019 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل ألوان احمر الشفاه لشتاء 2020

GMT 15:59 2018 الأربعاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

شركة "هوندا" تكشف عن سيارة تعتمد على الذكاء الاصطناعي

GMT 17:56 2017 الأربعاء ,04 كانون الثاني / يناير

اللاعب محمد الناهيري يعود إلى الفتح الرباطي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib