صراع على «معنى اليهودية»

صراع على «معنى اليهودية»

المغرب اليوم -

صراع على «معنى اليهودية»

سوسن الأبطح
بقلم - سوسن الأبطح

جنّ جنون المؤرخ الإسرائيلي الشهير يوفال نوح هراري بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول). شنّ هجوماً حارقاً على مواطنيه اليساريين الذين ذكّروا فقط، بجور الاحتلال ومسؤوليته، فيما جرى. لا تزال عاطفة هراري، الذي صنفته مجلة «لوبوان الفرنسية» على أنه «أهم مفكر في العالم حالياً»، تمنعه من استيعاب المشهد بكليته، وإن بدا أكثر تفهماً لحقوق الفلسطينيين، لا لمحبة، بل لإدراك مستجدّ، أن تجاهلهم يضع إسرائيل التي ولد ويعيش فيها، أمام حائط مسدود.

هراري أرّخ لحياة البشرية الممتدة منذ 70 ألف سنة، في كتابه «الإنسان العاقل: موجز تاريخ البشر»، وترجم إلى عشرات اللغات، وباع ملايين النسخ، وروج طويلاً لفكرة أن إسرائيل هي «الوطن التاريخي لليهود». لكن ها هي قسوة التغيرات، تجعله يعترف بأن إسرائيل تعيش تصدّعاً داخلياً عظيماً، يفوق أي خطر خارجي. والصراع المركزي الآن، هو على «روح اليهودية» بين الحركة القومية العلمانية والحركة المسيحانية الجديدة، التي تؤمن بالتفوق اليهودي، ليس على العرب وحدهم، بل على كل الأمم. وهي بنزعتها العنصرية والعلوية، أصبحت جزءاً من الحكومة الائتلافية، وقبضتها تزداد قوة ونفوذها يتصاعد. هؤلاء لا رؤية لديهم للسنوات المقبلة، سوى إقامة الدولة اليهودية التي وعدوا بها من البحر إلى النهر، حيث ينقسم فيها السكان إلى ثلاث طبقات: اليهود كاملو المواطنية، وعرب 48 بنصف حقوق، والطبقة الثالثة هي عرب 67 من دون حقوق على الإطلاق. بمعنى آخر، تكريس الوضع الحالي، وجعله نهائياً. هذا هو الحل الوحيد المطروح، كما يشرح هراري، متجاهلاً نوايا التهجير والإبادة. وهو حزين لا على الفلسطينيين، مع أنه نباتي ورقيق القلب، وإنما لأن المسيحانيين هم تهديد للصهيونية العلمانية نفسها التي أسست إسرائيل. وما يحدث اليوم هو انقلاب على المؤسسين الأوائل وتدمير للمؤسسات التي أقاموها بشكل ممنهج، وإحلال سلطة دينية متشددة مكانها. يعلق هراري: «إذا فشلنا ونجحوا في فرض سيطرتهم ورؤيتهم المسيحانية، سيتغير معنى اليهودية في جميع أنحاء العالم. وعلى اليهود أينما كانوا أن يتعاملوا مع العواقب».

الصراع ليس محسوماً، لكن المسيحانية حركة تبشيرية، وتتمتع بالتماسك ووحدة الرأي. رفض الكنيست مؤخراً، بأغلبية ساحقة حلّ الدولتين، وموقف الرأي العام الإسرائيلي الوحشي المشجع على مواصلة الإبادة الجماعية في غزة، وما تجرّه من نبذ لهم من العالم، يدلّ على عمى في الرؤية.

وقبل أيام، وفي لعبة شدّ الحبال، بين العلمانيين والمتطرفين، هدد الحاخام الأكبر لليهود السفارديم في إسرائيل، يتسحاق يوسف، بأن «الحريديم» سيغادرون البلاد إذا أجبروا على الخدمة في الجيش. «سنسافر جميعاً، نشتري التذاكر ونذهب». هؤلاء يشكلون 13 في المائة من السكان، هم الأكثر نمواً في الأعداد، بسبب تحريم تحديد النسل، وهم أيضاً كتلة موحدة يقرر كلمتها الحاخام الذي قال إن «كل هؤلاء العلمانيين عليهم أن يفهموا أن هكذا قرار يضع الدولة على المحك».

66 ألفاً أعفوا من التجنيد ولم يتطوع منهم بعد 7 أكتوبر، رغم وجود جبهتين والشعور بالخطر الوجودي، سوى 540 شاباً. فهم يعدون أنهم خلقوا للصلاة والعبادة والدعاء لإسرائيل، والعمل ليس من مهماتهم، وقد تقوم به زوجاتهم اللواتي ينظر إليهن كمخلوق قاصر. نمط حياة غرائبي، في غيتوات معزولة، تتسع وتتمدد، رغم أن تمركزها الأساس كان في القدس، إلا أن الظاهرة تتفاقم. وتعول الحكومة، التي تدفع لهم أجوراً دائمة، مع أنها تعاني من أزمة اقتصادية، ونقص في عديد المقاتلين، على أن خروجهم من البلاد مستعصٍ، لأنهم سيضطرون للعمل أينما توجهوا، وهم غير مؤهلين لفعل أي شيء بسبب مدارسهم، التي لم تعلمهم من المهارات سوى قراءة الكتب الدينية.

بلا تلفاز أو صحف وتقنين في استخدام الهاتف، ولا رخصة سياقة إلا بإذن من الحاخام، وشروط على الملابس من الجوارب إلى غطاء الرأس. حياة شكلاً ومضموناً شبيهة بما عاشه أجدادهم في القرن الثامن عشر، حتى الأخبار يعرفونها من الإعلانات التي تعلق على حوائط أحيائهم المغلقة عليهم. هؤلاء تم تسليحهم، ويهددون باستخدام العنف إن شعروا بالضغط لتغيير أسلوب حياتهم. هم دولة داخل الدولة. فالدولة أقل أهمية من التوراة، في رأيهم، لهذا يبدو ملفهم متفجراً. فإن تم الاصطدام معهم، دخلت إسرائيل في حرب، داخلية، وإن أكملوا سيطرتهم غرقوا في نزاع عنيف مع الداخل، وخضعت دولتهم لطلاق مع الخارج.

يوم تتوقف الحرب، سيكون بانتظار إسرائيل استحقاقات مصيرية، لا تقل أهمية عن استحقاقات الشعب الفلسطيني الذي تعرض لهزة أكبر حتماً من نكبة 1948. لكن الفلسطينيين لم يعد لديهم ما يخسرونه، وقد باتوا في العراء، وضاع الولد والبيت والأمل. أما إسرائيل فلديها كل شيء: التفوق العسكري، والحلفاء الأقوياء، ونصف يهود العالم على أرضها، والاستثمارات الكبرى، والتكنولوجيا المتطورة، والاقتصاد الذي كان ينمو بسرعة. كل هذا يتزعزع ويتصدع، وبدأ بالفعل بالتراجع.

سيكون على إسرائيل أن تحاكم من تسببوا في كارثتها في 7 أكتوبر، وما يقوله هراري في هذا الشأن إن الجيش والمخابرات، والشين بيت، حذروا نتنياهو وجماعته، سراً وعلناً، منذ أشهر، من أن إسرائيل في خطر رهيب، وأن عليهم أن يحولوا انتباههم، من محاولة تدمير المؤسسات الدستورية، إلى التركيز على الخطر الخارجي المتمثل في «حماس»، و«حزب الله» وإيران. لم يصغ أحد، لأن الفكرة الراسخة في أذهانهم، هي أن كل هؤلاء الخبراء العسكريين، وقائد الجيش معهم، ورئيس الشاباك، هم جزء من مؤامرة الدولة العميقة ضدهم. ظنوا أن التحذيرات، هي جزء من اللعبة الداخلية، وأن الهدف إجبارهم على وقف الإصلاح القضائي. لهذا عاشت إسرائيل السابع من أكتوبر وكأنها في غيبوبة، ولا تزال التبعات مستمرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صراع على «معنى اليهودية» صراع على «معنى اليهودية»



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

نانسي عجرم تتألق بفستان فضي من توقيع إيلي صعب في إطلالة خاطفة للأنظار

دبي - المغرب اليوم

GMT 15:46 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 23:36 2021 الجمعة ,15 تشرين الأول / أكتوبر

علاج فورما للبشرة هو بديل ممتاز لعمليات شد الوجه

GMT 15:22 2018 الأربعاء ,12 أيلول / سبتمبر

مقتل شخص وإصابة آخر بجروح خطيرة في حادثة سير

GMT 20:09 2018 الثلاثاء ,14 آب / أغسطس

هبوط أسهم شركة "اتلانتيا" الإيطالية

GMT 06:37 2018 الجمعة ,26 كانون الثاني / يناير

اللبنانية بولا يعقوبيان تنتقل إلى تلفزيون الجديد

GMT 05:06 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

"لوس أنغلوس تايمز" تتعرض الانتقادات من رواد "تويتر"

GMT 17:14 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

أعرفك.. وشم على نبض القلب، ونفحة من روح السماء!

GMT 01:55 2012 الثلاثاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

خفض قيمة قصر بيل أير إلى 25 مليون إسترليني

GMT 17:13 2017 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

مدرب أتلتيكو مدريد يكشف سر الانتفاضة أمام ليفانتي

GMT 16:17 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

معارك القرود تساعد على كشف "النقطة الحرجة" للحيوانات
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib