أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

المغرب اليوم -

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»

هدى الحسيني
بقلم - هدى الحسيني

في خطوة قد تُغيِّر قواعد التجارة الإقليمية، يشق مشروع «السكك الحديدية العابرة لأفغانستان» طريقه بثبات ليُعيد رسم خريطة النفوذ والربط الاقتصادي في قلب آسيا. المشروع الذي يربط أوزبكستان، الدولة الحبيسة في آسيا الوسطى، بالمواني الباكستانية على بحر العرب عبر الأراضي الأفغانية، ليس مجرد خط نقل، بل هو استراتيجية جيوسياسية متكاملة، تحمل وعوداً ومخاطر لجميع الأطراف المعنية.

تسعى أوزبكستان من خلال هذا المشروع إلى التخلص من «جغرافيا الحصار»، بعدما ظلَّت تعتمد لعقود على طرق عبور تمر عبر روسيا وبحر قزوين. اليوم، تنفتح أمامها فرصة للوصول المباشر إلى موانٍ باكستانية، مثل كراتشي وغوادَر، ما يمنحها منفذاً على البحار الدافئة، ويُعزز تنافسيتها التجارية. هذا المسار الجديد يختصر المسافات، ويُقلل التكاليف، ويفتح نوافذ تصدير جديدة نحو أسواق الخليج وأفريقيا وجنوب آسيا.

يمتد المشروع عبر مسارين رئيسيين: الأول يبدأ من مدينة مزار شريف في الشمال، مروراً بهرات وقندهار حتى نقطة العبور في تشامان على الحدود الباكستانية، وهو ما يُعرف بالممر الغربي. أما الثاني، فيسلك طريقاً أقرب إلى العاصمة كابل، من ترميز على الحدود الأوزبكية، مروراً بنيباباد ولوغر وصولاً إلى خرلاشي، وهو ما يُعرف بالممر الشرقي. المفاضلة بين المسارين لا تخضع فقط للعوامل الجغرافية، بل تتداخل فيها اعتبارات سياسية، وأمنية، واقتصادية دقيقة. فمن ناحية، يُفضّل المسار الأقصر إلى المواني من حيث التكاليف والسرعة، لكن من ناحية أخرى، تؤثر طبيعة التضاريس، ومدى استقرار المناطق، ومستوى التحكم الأمني على قرار الاختيار النهائي.

في هذا السياق، تلعب أفغانستان دوراً محورياً، ليس بحكم موقعها فقط، بل بسبب تحوُّلها من دولة عبور هامشية إلى عقدة مركزية في شبكة الربط بين الشمال والجنوب. وعلى الرغم من عدم الاعتراف الدولي بحكومة «طالبان» (مؤخراً اعترفت روسيا، العدو اللدود، بـ«طالبان»)، فإن الأخيرة نجحت في توظيف المشروع بوصفه أداة نفوذ، وسلعة تفاوضية تفرض من خلالها واقعاً لا يمكن تجاهله. فهي تتيح مرور الشحنات مقابل رسوم عبور وإيجارات واستثمارات، وتُشارك في التنسيق الأمني مع الدول المعنية، ما يمنحها شرعية غير رسمية وشبكة علاقات عملية تتجاوز العزلة الدبلوماسية.

لكن هذا الدور يبقى هشّاً بطبيعته، فنجاح «طالبان» في تحويل خط السكة إلى مصدر دخل واستقرار يعتمد على قدرتها في تأمين المناطق التي يمر بها، وعلى ضمان عدم ظهور بدائل أخرى تتفادى الأراضي الأفغانية، كخطوط تمر عبر إيران أو الصين. إن أي اهتزاز في الأمن، أو أي توتر سياسي، كفيل بأن يفقد أفغانستان موقعها بصفتها ممراً إجبارياً.

في المقابل، ترى أوزبكستان في هذا المشروع فرصة ذهبية للخروج من عزلتها الجغرافية، فقد تبنَّت طشقند خلال السنوات الأخيرة سياسة تنويع مساراتها التجارية وعدم الارتهان لدولة واحدة. وهي تسعى إلى تطوير دورها وسيط نقل وتخزين وتخليص جمركي، مما يدر عليها عائدات من الخدمات اللوجيستية. كما تعمل على جذب التمويل الأجنبي لبناء مناطق صناعية عند تقاطعات النقل، وتحويل الجغرافيا إلى مصدر عملة صعبة. غير أن هذه الاستراتيجية لا تخلو من المخاطر، إذ إن أي اضطراب أمني في أفغانستان قد يعطّل هذا الطموح.

أما روسيا، فتتعامل مع المشروع باعتباره مخرجاً استراتيجياً من عزلتها المفروضة بعد غزو أوكرانيا. فمع تضييق المنافذ الأوروبية، أصبح على موسكو أن تُعيد توجيه صادراتها نحو الجنوب. من خلال دعم هذا المشروع، تأمل في تجاوز الرقابة الغربية على التجارة البحرية، وتوسيع شبكتها البرية عبر آسيا الوسطى وباكستان. إضافة إلى ذلك، ترى روسيا في فرض مقياس السكك الحديدية الذي تعتمده، والمعروف باسم «1520 ملم»، أداة لتعزيز نفوذها الفني والبنى التحتية في المنطقة.

وهنا تحديداً، تظهر أهمية مفهوم «مقياس السكة»، وهو ببساطة عرض قضيبَي السكك الحديدية. المقياس المستخدم في معظم دول الغرب والصين هو (1435 ملم)، ويُعرف بالمقياس القياسي العالمي. في المقابل، تعتمد روسيا ودول آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان وكازاخستان، المقياس الأعرض (1520 ملم). الاختلاف بين هذين المقياسين يعني أن القطارات لا يمكن أن تتابع سيرها عند الحدود من دون تغيير نظام العجلات أو نقل البضائع من قطار إلى آخر، مما يُسبب تأخيراً وتكلفة إضافية. لذا فإن اختيار أفغانستان للعمل بالمقياس الروسي ليس مجرد قرار تقني، بل هو اختيار جيوسياسي يُقحمها ضمن دائرة النفوذ الروسي، ويصعِّب اندماجها مع مسارات تديرها الصين أو إيران أو الدول الغربية.

بالنسبة إلى باكستان، يُمثل المشروع فرصة لتحويل موقعها من مجرد دولة حدودية إلى عقدة ربط تجاري بين آسيا الوسطى والعالم. فمع وصول البضائع إلى موانيها، تكتسب كراتشي وغوادر أهمية مضاعفة في سلاسل الإمداد الإقليمية، وتُحقق الدولة مكاسب مالية من الرسوم وخدمات المواني. كما تسعى إسلام آباد، من خلال هذا الربط، إلى تعزيز موقعها في وجه مشروعات هندية أو إيرانية قد تستهدف الأسواق نفسها، وهو ما يُعيد تفعيل التنافس الإقليمي عبر شبكات النقل والبنية التحتية.

ومع كل هذه الأدوار المتشابكة، يظل مستقبل «السكك الحديدية العابرة لأفغانستان» مرهوناً بثلاثة عوامل: الاستقرار الأمني داخل أفغانستان، والتفاهم السياسي بين الدول المشاركة، واستمرارية التمويل والاستثمار في البنية التحتية. فالطموحات كبيرة، لكن الطريق لا يزال مملوءاً بالعوائق، والربح لن يكون مضموناً إلا لمن يثبت قدرته على حماية خط التجارة الجديد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية» أفغانستان ودبلوماسية «السكك الحديدية»



GMT 19:27 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

الفرح ليس حدثاً

GMT 19:13 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

من نيويورك إلى غزّة

GMT 19:10 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تلك الصورة في البيت الأبيض

GMT 19:07 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

زغلول النجّار.. ودراما الإعجاز العلمي

GMT 19:04 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان: المفاوضات وأزمة السيادة المنقوصة

GMT 19:02 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

طيور المحبة بين الرياض والقاهرة

GMT 18:58 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

الخوف على السينما فى مؤتمر النقد!

GMT 18:55 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

السيمفونية الأخيرة

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 17:49 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا
المغرب اليوم - المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا

GMT 19:51 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي
المغرب اليوم - لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي

GMT 09:18 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ناصر بوريطة يتعهد بدعم 350 فاعلاً غير حكومي ماديا خلال سنة 2026
المغرب اليوم - ناصر بوريطة يتعهد بدعم 350 فاعلاً غير حكومي ماديا خلال سنة 2026

GMT 01:06 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

بسمة وهبة تدعم زوجة كريم محمود عبد العزيز وتشير لنهايتهم
المغرب اليوم - بسمة وهبة تدعم زوجة كريم محمود عبد العزيز وتشير لنهايتهم

GMT 04:27 2012 الإثنين ,17 أيلول / سبتمبر

زيت نخالة الأرز قادر على خفض الكولسترول

GMT 06:18 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

موجبات التوظيف المباشر في أسلاك الشرطة

GMT 20:34 2018 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

موعد انطلاق بطولة مجلس التعاون الخليجي للغولف في مسقط

GMT 03:33 2018 الأربعاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

"الموناليزا"النيجيرية تعود إلى موطنها إثر العثور عليها

GMT 18:27 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

سويسرا تطرد فرنسياً تونسياً بشبهة الإرهاب

GMT 10:45 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على ديكور الحفلات في الهواء الطلق في الخريف

GMT 03:59 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

ريهانا عارية الصدر في ثوب حريري فضفاض

GMT 07:41 2016 الإثنين ,05 أيلول / سبتمبر

تفاصيل جريمة قتل بشعة في أحد أحياء الدار البيضاء

GMT 16:12 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

وزير الخارجية الأردني يلتقي نظيره الهنغاري

GMT 01:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

بيتكوين تقترب من 100 ألف دولار مدفوعة بفوز ترامب

GMT 05:10 2022 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

كريم بنزيما أفضل لاعب في العام جلوب سوكر 2022
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib