نحن وأميركا والمستقبل

نحن... وأميركا... والمستقبل

المغرب اليوم -

نحن وأميركا والمستقبل

إياد أبو شقرا
بقلم : إياد أبو شقرا

في قفشة سمعتها نقلاً عن فنان عربي ظريف أنَّه عندما سئل «ماذا تقول للأجيال العربية الآتية؟»... ردَّ بسرعة: «أقول لهم لا تأتوا!».لهذا الكلام دلالة غير مطمئنة تعكس واقع عالم عربي متلقٍّ بينما تنحصر القدرة على التحريك والتأثير في قلة قليلة، ليس من دول العالم فحسب، بل من الأفراد أيضاً.

أهمية الإنسان في كل مكان، وليس فقط في عالمنا العربي أو في «العالم الثالث»، تتضاءل كل ساعة وكل يوم أمام التقدّم التكنولوجي المخيف الذي حملته «الثورة المعلوماتية» وتقنيات التواصل.

حتى في أميركا، تلغي الأوامر الرئاسية التي يُصدرها الرئيس دونالد ترمب، ويُوصي بها ويروّج لها أعوانه مثل إيلون ماسك، أي دور للإنسان بالتوازي مع التآكل المتسارع لمنظومة القِيَم التي قامت عليها الولايات المتحدة، وتطوّرت في ظلّها ثقافتها السياسية. وفي تقديري، سيتضاءل دور الإنسان أكثر فأكثر مع دخولنا عصر «الذكاء الاصطناعي»، الذي قيل وسيُقال عنه الكثير.

المبدأ واحد في مختلف الدول التي تمرّ في مرحلة التعايش الصعب بين «هضم» التقدّم التكنولوجي المتسارع واستيعابه، والمحافظة على سلامة النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي وإنسانية الإنسان.

في كُل الدول، وبالأخص في أوروبا التي تعاني من أزمة ديمغرافية حادة، نلمس هذا التعايش الصعب، لكن الاختلاف يكمُن في نِسب التعامل معه عبر مسألتين: الأولى كيفية السيطرة على التحدّي، والثانية تحميل المسؤولية فيه.

وفي ظل السرعة الهائلة التي يحملها التقدّم التكنولوجي بالنسبة للسيطرة على التحدّي، أدركت بعض الدول الغربية الكبرى قبل غيرها أن مفهوم «العمالة الكاملة» بات شيئاً من الماضي. وبناءً عليه وجدت أنه لا بد من التأقلم مع معدلات بطالة مرتفعة، ستزداد ارتفاعاً كلّما تسارع زحف التكنولوجيا الجديدة - ثم الذكاء الاصطناعي - على الوظائف، بدءاً من وظائف العمالة غير الماهرة، وانتهاء - خلال سنوات معدودات - إلى قطاعات عديدة من العمالة الماهرة المتخصصة.

قبل بضعة عقود، أدى الاقتناع المتزايد بأن هدف «العمالة الكاملة» صار وهماً إلى انهيار نفوذ النقابات، ومعها نظرية «الصراع الطبقي» التي تقسم المجتمعات «أفقياً». وتحوّل التناقض المصلحي إلى صراع «عمودي» بين اليد العاملة المحلية واليد العاملة الوافدة.

في بعض الدول، مثل بريطانيا، تبلور هذا التحوّل في استنهاض الهوية الوطنية الانعزالية، التي شكلت عبر فكرة «بريكست»، القوة الدافعة للخروج من «الاتحاد الأوروبي».

نقابات العمال كانت قد خسرت مرحلياً، إبان حكم مارغريت ثاتشر، أمام قوى السوق التي فرضت اعتماد التكنولوجيا الجديدة. وجنباً إلى جنب تقلّص قطاع الصناعات التقليدية والمناجم... أمام قطاعي الخدمات والمال والتكنولوجيا الجديدة.

وبالإضافة إلى هذا العامل، أسقط «الاتحاد الأوروبي» - ثم نهاية الحرب الباردة - الحواجز بين السوق البريطاني والعمالة الرخيصة الوافدة من دول أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً، وهو ما استعدى العمال المحليين على منافسيهم الوافدين.

وهكذا، وُلد تناقض مصلحي على مستويين: الأول عمالي، بين العمالة المحلية والعمالة الوافدة الأقل أجوراً. والثاني ضريبي، حيث تضرّر الرأسماليون البريطانيون الكبار من القوانين الأوروبية الأحرص على «شبكات أمان» الطبقة العاملة. وهكذا التقت مصالح النقيضين اليساري (العمالي) واليميني (الرأسمالي) ضد بنية الوحدة الأوروبية... فانتصر دعاة مغادرة «الاتحاد الأوروبي».

فرنسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا وغيرها، شهدت ظواهر مشابهة وموازية تجسّدت في انهيار أحزاب اليسار التقليدي - المؤمن بالصراع الطبقي - أمام الأحزاب والقوى القومية، بل والعنصرية. وللعلم، هذه الأحزاب والقوى بنَت استراتيجيتها على معارضة ظاهرة الهجرة والمهاجرين، سواء من دول شمال أفريقيا كحال فرنسا وهولندا وإسبانيا، أو من شمال أفريقيا وألبانيا كحال إيطاليا، أو من تركيا والبوسنة ووسط أوروبا... أو من العراق وسوريا كحال ألمانيا والسويد.

في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة، التي هي في الأساس «بلاد مهاجرين»، أيضاً تتعرّض لديناميكيات عالية التأثير. ولكن في الولايات المتحدة غطّت أولويات «الحرب الباردة» وحروبها المتمادية في مختلف أنحاء العالم العديد من «تشقّقات» هيكل الرأسمالية الأميركية. وأيضاً ساعدت تلك الأولويات القيادات في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الهروب من التعامل الجدّي مع آفات مثل المديونية وعجز الميزانية الدائم وتراجع التنافسية... التي كان من إفرازاتها هروب العديد من الصناعات عبر الحدود.

ومن ثم، في أعظم لحظات الانتصار الأميركي وتحقيق «الأحادية القطبية»، بدأت المشاكل والتداعيات تظهر تباعاً، وكانت أهمها «أزمة الركود المالية الكبرى» عام 2008.

لقد كشفت تلك الأزمة كيف أن أميركا التي أجادت إدارة الحرب، فشلت في كسب معركة السلام. كذلك كشفت زيف معظم الشعارات البرّاقة للحرية الاقتصادية، ونسفت كل المبادئ المروّج لها على امتداد العالم... وفي طليعتها فرض الانفتاح الاقتصادي وتقبل حرية الاستثمار، ورفض الحواجز الجمركية والسياسات الحمائية.

اليوم، بالتوازي مع الحرب الاقتصادية المفتوحة على الحلفاء والأعداء عبر الحواجز الجمركية، وأيضاً الحرب على العمالة الوافدة، نرى طغيان «أوليغارشيي» التكنولوجيا المعلوماتية والتواصل على إدارة ترمب، وإطلاق يدهم في «مجزرة» تقزيم المؤسسات الحكومية باسم «النجاعة المالية»، ما يعني شطب عشرات آلاف الوظائف!

وعلى وقع الشعارات القومية الجامحة، المسحوبة من قاموس حركة «ماغا» (أي إعادة «أميركا إلى عظمتها من جديد»)، تهدّد واشنطن سيادة كندا، وتشن معركة مع الدنمارك بهدف الاستحواذ على جزيرة غرينلاند، وتفتح صفحة السيطرة على قناة بنما...

في مثل هذه الظروف، مناسب جداً تذكّر مقولتين بليغتين إحداهما للعالم والمفكر النرويجي كريستيان لوس لانغ، حامل جائزة نوبل، وهي «التكنولوجيا خادم مفيد لكنها سيد خطير!»، والثانية لألبرت آينشتين وهي «لقد صار بديهياً، وبصورة مفزعة، أن قدراتنا التكنولوجية فاقت إنسانيتنا»!!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نحن وأميركا والمستقبل نحن وأميركا والمستقبل



GMT 17:00 2025 الأربعاء ,24 أيلول / سبتمبر

يوم فلسطيني بامتياز..ماذا بعد

GMT 16:59 2025 الأربعاء ,24 أيلول / سبتمبر

تَوَهان المشتغلين في الإعلام

GMT 16:58 2025 الأربعاء ,24 أيلول / سبتمبر

هل تغير الزمن فعلا ؟!

GMT 15:35 2025 الثلاثاء ,23 أيلول / سبتمبر

الاعتراف بفلسطينَ اعتراف بإسرائيل

GMT 15:32 2025 الثلاثاء ,23 أيلول / سبتمبر

دراميات صانعي السلام

GMT 15:27 2025 الثلاثاء ,23 أيلول / سبتمبر

تحقيقٌ صحافي عن عبد العزيز ومن عبد العزيز

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,23 أيلول / سبتمبر

من يسار الصحوة الأميركية إلى يمين الترمبية

GMT 15:15 2025 الثلاثاء ,23 أيلول / سبتمبر

حكاية الطبيب والأميرة ديانا!

الأناقة الكلاسيكية تجمع الملكة رانيا وميلانيا ترامب في لقاء يعكس ذوقًا راقيًا وأسلوبًا مميزًا

نيويورك - المغرب اليوم
المغرب اليوم - أنواع النباتات المثمرة المناسبة في بلكونة المنزل

GMT 07:42 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مرسيدس تطلق سيارة رياضية بمواصفات فائقة

GMT 15:45 2018 الأربعاء ,01 آب / أغسطس

المصري محمد صفوت يودع بطولة لوس كابوس للتنس

GMT 23:22 2018 السبت ,14 إبريل / نيسان

طرق بسيطة لاختيار ساعات عصرية تناسب الرجال

GMT 04:08 2018 الأحد ,18 آذار/ مارس

... مَن قال ليس حقيبة؟

GMT 01:12 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

"نيس" الفرنسي يظهر اهتمامه بضم المغربي أمين باسي

GMT 13:19 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

لاس بالماس الإسبانية المدينة المثالية لقضاء أحلى شهر عسل

GMT 08:40 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

الطقس و الحالة الجوية في جبل العياشي

GMT 00:43 2016 الجمعة ,23 أيلول / سبتمبر

شاطئ "الكزيرة" في المغرب جوهرة شمال غرب إفريقيا

GMT 00:02 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

عمرو السنباطي يعلن عن رؤيته لمستقبل نادي هليوبوليس

GMT 07:58 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم ماهيكا مانو في طوكيو لمحبي الأماكن الرائعة والمختلفة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib