حرب غزّة ملاحظات هادئة على أوضاع صاخبة

حرب غزّة: ملاحظات هادئة على أوضاع صاخبة

المغرب اليوم -

حرب غزّة ملاحظات هادئة على أوضاع صاخبة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

غيّرت حرب إسرائيل و»حماس» معادلات بقدر ما كرّست معادلات. وهي في أغلب الظنّ ماضية في ذلك طالما أنّها حرب ذات حروب كثيرة، وهذا فضلاً عن الاحتمال شبه المؤكّد من أنّها سوف تستغرق وقتاً يصعب التكهّن بطوله، مع ما قد ينطوي عليه الطول من «مفاجآت».

فالعنجهيّة والتفوّق الإسرائيليّان كُسرا، وتبدّى كم أنّ الأمن وحده، بما فيه الحواجز والجدران، ليس ضمانة مطلقة لصاحبه، وأنّ الاحتلال والاستيطان والإذلال والتجاهل والرهان على النسيان بمرور الزمن ليست علاجات للمشكلات الفعليّة. وهذا كلّه خبر مفرح، لا يقتصر الاحتفاء به على خصوم إسرائيل وأعدائها، بل يُفترض أن يدغدغ مشاعر إسرائيليّين أبعد نظراً أو أصدقاء لإسرائيل ممّن يعرفون أنّ الشؤون العامّة لا تُساس بالقوّة الفظّة وحدها. والبائس أنّ حكومة بنيامين نتانياهو الحاليّة، التي اتّسعت لأحطّ المستوطنين، كانت تعزيزاً وتزكيةً لهذه العلاجات التعيسة كلّها، وللإمعان فيها.

لكنْ هل يمكن لهذه المعاني الجديدة أن تُثمَّر سياسيّاً؟

المُقلق، في أحوالنا، أنّنا نعرف هويّة المتضرّر في المواجهات الحربيّة أكثر ممّا نعرف هويّة المستفيد منها. فالوطنيّة الفلسطينيّة تملك اليوم مشاعرها الجيّاشة لكنّها لا تملك أدواتها العمليّة. وهذا ما يُستدلّ عليه في معطيات معروفة جدّاً لا تستوقف المتحمّسين: من الانشطار ما بين ضفّة غربيّة وغزّة، إلى الطبيعة الرثّة لسلطة «حماس» نفسها، ناهيك عن أوضاع المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان وربّما في غير لبنان. فحرب غزّة الحاليّة إنّما كرّست تحوّل الحروب البادئ منذ 1973، من حروب عربيّة – إسرائيليّة إلى حروب موضعيّة مع إسرائيل، ومن حروب جيوش كلاسيكيّة إلى حروب جماعات وشُلَل شعبويّة غالبها إسلاميّ. وهذا إنّما صحبه «ترشيق» للقضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة حوّلها جسماً ناحلاً يستطيع أن يزوّره أيّ طرف آخر قويّ وأن يوظّفه على هواه.

وحين نتحدّث عن بؤس الأدوات العمليّة للوطنيّة الفلسطينيّة نتذكّر الفارق بين الانتفاضة الأولى في 1987-8، وكانت منظّمة التحرير الممثّل الوحيد للفلسطينيّين، والانتفاضة الثانية في 2000، ومن بعدها انشطار السلطة إلى نصفين في 2007. فالانتفاضة الأولى، وكانت سلميّة، ساهمت في إطلاق وجهة ديبلوماسيّة عبّرت عن نفسها في مدريد عام 1991 وفي أوسلو بعد عامين. وكائناً ما كان الرأي بهذين التحوّلين بذاتهما فإنّهما يظلاّن أفضل بلا قياس من التطوّرات التي تلتهما وصحبها اختراق واسع لتمثيل الفلسطينيّين السياسيّ. هكذا راح العنف والضحايا يتزايدون وراح الإنجاز والسياسة يقلاّن. ومذّاك تتقدّم الأمور على هذا النحو، بحيث تُحال قضيّة مُحقّة إلى فراغ التجريد والتقديس اللفظيّ، فيما يستولي آخرون على قيمتها الاستعماليّة.

والآخرون، هنا، هم حصراً إيران ومعسكرها ممّن يخوضون بالفلسطينيّين معركة الدور والنفوذ في المنطقة، وهذا مصحوباً بآلام وعذابات نادراً ما عانتها شعوب أخرى. وأمر الفلسطينيّين هنا لا يختلف إلاّ في الكمّ عن أمر اللبنانيّين الذين آل اضمحلال دولتهم وتصدّع إجماعاتهم الوطنيّة إلى إعلاء النفوذ الإيرانيّ في بلدهم وإعطائه، عبر «حزب الله»، اليد العليا.

هكذا فالكسب، إذا كان هناك من كسب على المدى الأبعد، سوف يصبّ في الرصيد الإيرانيّ على أصعدة ثلاثة: إقرار الدول الغربيّة بدور أساسيّ لطهران في تصوّر المنطقة وصياغة مستقبلها، وتعطيل المساعي التي راهنت وتراهن عليها دول عربيّة تظنّ أنّها تُحدث اختراقاً ديبلوماسيّاً للوحة الحرب والسلام، وتوطيد قبضة حلفاء طهران، وأوّلهم النظام السوريّ الذي ربّما انتظر طويلاً فرصة تشغل العالم عنه كي يتمدّد شمالاً وجنوباً.

وتبعاً لخلفيّة كهذه يتبدّى أنّ الحماسة للصفعة التي أصابت إسرائيل، وهي المبرّرة والمفهومة عاطفيّاً، لم يُنجدها أيّ تصوّر أبعد للحرب الراهنة. وهو مأزق يوضحه صراع عاطفتين عصفتا بكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة: من جهة، الاحتفال بإيذاء إسرائيل، ومن جهة أخرى، عدم تمنّي الإفادة الإيرانيّة.

لكنّنا سبق أن عرفنا حالة مشابهة لم يتعلّم كثيرون منّا دروسها. ففي لبنان وفي غير لبنان، أحدثت حرب يوليو (تمّوز) 2006 التفافاً حول «حزب الله» أنسى الكثيرين ما سبق أن حصل قبل عام واحد، مع اغتيال رفيق الحريري وموجة الاغتيالات اللاحقة، وذلك بذريعة أنّ لا صوت يعلو على صوت المعركة مع إسرائيل. وما كادت الحرب تنتهي، وما كاد الحزب يسمّيها «نصراً إلهيّاً»، حتّى تعاظمت وطأة جبروته على حياة اللبنانيّين كما تعاظمت استحالة قيام دولة ووطنيّة لبنانيّتين فيما استأنفت إسرائيل حياتها المعتادة. وبالنتيجة، كان هذا «النصر» المزعوم نصراً على بعض المحتفلين به أنفسهم.

وهو مأزق فعليّ وكبير، وبمعنى ما مأسويّ، مفاده دعم قضيّة لا يستطيع أصحابها الإفادة منها، بل لا تستطيع ذلك إلاّ إيران وبشّار الأسد ومن لفّ لفّهما.

لقد آن أوان الفصل بين طلب الحقّ والعدالة وطلب الانتحار، والسعي وراء وسائل غير القوّة وغير «فشّ الخلق» في طلب العدالة والحقّ. وللأسف بدأنا نرى اليوم بعض نتائج الاحتفال بالهديّة الإيرانيّة المسمومة، ولم يكن صعباً على من يستخدم عقله في الحدّ الأدنى أن يدرك أيّة نتيجة سوف تنجم عن عمل كالذي حصل في غزّة. فنحن، على عكس ما قال المتحمّسون، أبعد من فلسطين أضعاف ما كنّا، وأبعد من نيل الحقّ والعدالة، وأبعد من العقل أيضاً. يقال هذا مع الأسف والألم مليون مرّة، والرحمة للضحايا الأبرياء من المدنيّين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب غزّة ملاحظات هادئة على أوضاع صاخبة حرب غزّة ملاحظات هادئة على أوضاع صاخبة



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 18:50 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتمتع بالنشاط والثقة الكافيين لإكمال مهامك بامتياز

GMT 21:08 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

الأحداث المشجعة تدفعك?إلى?الأمام?وتنسيك?الماضي

GMT 03:15 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

نجاة ممثل كوميدي شهير من محاولة اغتيال وسط بغداد العراقية

GMT 08:02 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

آرسين فينغر الأقرب لتدريب ميلان خلفًا لغاتوزو

GMT 04:11 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

صابرين سعيدة بـ"الجماعة" وتكريمها بجائزة دير جيست

GMT 14:57 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

عمرو الليثي يستضيف مدحت صالح في "بوضوح" الأربعاء

GMT 14:14 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

المدن المغربية تسجّل أعلى نسبة أمطار متساقطة خلال 24 ساعة

GMT 03:21 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

ظروف مشحونة ترافق الميزان ويشهد فترات متقلبة وضاغطة

GMT 06:15 2017 الجمعة ,24 آذار/ مارس

ورم الكتابة

GMT 12:25 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح منزلية لتنظيف وتلميع الأرضيات من بقع طلاء الجدران

GMT 06:32 2017 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مجرد درس مغربي آخر !

GMT 01:26 2016 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

ريم مصطفى تؤكد أنها ستنتهي من "نصيبي وقسمتك" بعد أسبوع

GMT 11:30 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات شعر بها سكان الحسيمة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib