خلل منطقيّ في نظريّة الأحاديّة القطبيّة المطلقة

خلل منطقيّ في نظريّة الأحاديّة القطبيّة المطلقة

المغرب اليوم -

خلل منطقيّ في نظريّة الأحاديّة القطبيّة المطلقة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

غالباً ما توصف الحقبة التي بدأت بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة السوفياتيّة بالأحاديّة القطبيّة، وغالباً ما توصف الأحاديّة القطبيّة هذه بأنّها هيمنة أميركيّة ساحقة ماحقة لا يستطيع معها شعب من الشعوب أن يرفع رأسه، ولا يستطيع بلد من البلدان أن يرفع صوته. وفق هذا التصنيف، تأتي الحرب التي أعلنتها روسيا على أوكرانيا تعبيراً حميداً عن الرغبة في كسر تلك الأحاديّة القطبيّة المطلقة، هذا إن لم تكن الحرب المذكورة نفسها بدايةَ عمليّة الكسر تلك.
ما لا ينتبه إليه أصحاب المنطق أعلاه أنّ قطبيّة أحاديّة بذاك الجبروت المنسوب إليها يصعب أن تسمح بالقفزة الاقتصاديّة الجبّارة للصين أو بالقفزة العسكريّة الروسيّة، وأن تتعايش تالياً معهما. والواقع أنّ الولايات المتّحدة ذهبت أبعد من التعايش مع تحوّلات كان ينبغي، وفقاً لنظريّة الأحاديّة المطلقة، أن تخنقها في المهد: لقد ساهمت، على نحو أو آخر، في إحداث هاتين القفزتين في دولتين منافستين لها.
فمع الصين، لولا رساميل الأثرياء الصينيّين المقيمين في الولايات المتّحدة وتوظيفاتهم لما تحقّق للصين وشعبها ما تحقّق. ومع روسيا، لولا غضّ النظر عن النهج الدمويّ الذي اتّبعه فلاديمير بوتين في جورجيا وأوكرانيا وسوريّا لما صارت روسيا ما صارته كقوّة عسكريّة.
إلى هذا، ليست قوّةً أحاديّةً كاسحة ماسحة تلك التي تسمح لبلد كإيران، متواضع القدرات، ومحاصَر ومُفقر، بأن يعربد في الشرق الأوسط كما يفعل، جاهدةً للتوصّل معه إلى إحياء الاتّفاق النوويّ الذي بدا إلغاؤه في 2018 أقرب إلى استثناء يؤكّد القاعدة. وليست هي قوّةً أحاديّة مطلقة ومرهوبة الجانب تلك التي تطمئن سكّان تايوان المذعورين، مرّة في الشهر على الأقلّ، إلى أنّ الصين لن تبادر إلى غزوهم، أو تندّد، مرّةً في الأسبوع على الأقلّ، بالتجارب النوويّة المقلقة لكوريا الشماليّة التعيسة وزعيمها كيم جونغ أون. وبالإجمال، يصعب أن تُنسب سياسات واشنطن إلى الأحاديّة القطبيّة المهيمنة والإمبراطوريّة، خصوصاً منها الانكفاء الذي بدأه باراك أوباما مع وصوله للمرّة الأولى، عام 2008، إلى البيت الأبيض. إنّ الإمبراطوريّة والانكفاء ضدّان لا يلتقيان.
ثمّ، في ظلّ هذه القوّة الأميركيّة الموصوفة بالاستفحال، لا يعود مفهوماً، أو قابلاً للفهم، أن يبتعد عن واشنطن حلفاء تقليديّون ومزمنون لها في مناطق كثيرة من المعمورة. أمّا حرب أوكرانيا الراهنة فما كانت أصلاً لتحصل لو أنّ «بوليس العالم»، وفق ما تُنعت به الولايات المتّحدة، لا يغمض عينيه. وكيف، بعد كلّ حساب، نفسّر أنّ الجبروت المطلق المنسوب لأميركا يقف عاجزاً عن توفير كلّ الدعم الذي يطالب به الأوكرانيّون في مقاومتهم، لا سيّما إقامة منطقة حظر جويّ فوق أوكرانيا؟
أغلب الظنّ أنّ ما عشناه في الـ 15 سنة الماضية ليس تعبيراً عن الأحاديّة القطبيّة بالمعنى الذي يصوّره كارهو أميركا لسبب أو من دون سبب. إنّه، في المقابل، تعبير عن الفوضى الكبيرة التي نجمت عن تنصّل أميركا من دورها القياديّ في العالم، وما يترتّب عن ذلك من مسؤوليّات، وهذا علماً بأنّ واشنطن هي وحدها، لحسن الحظّ أو لسوئه، مَن يملك مقوّمات دور كهذا.
والحال أنّ ما ولد بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته كان أحاديّةً قطبيّة غير التي يتحدّثون عنها كما لو كنّا أمام إمبراطوريّة رومانيّة مستعادة. فإبّان ذروة الانتصار الأميركيّ في الحرب الباردة، أقدم صدّام حسين على غزو الكويت، واضطرّت واشنطن إلى إنشاء أكبر تحالف في تاريخ التحالفات الدوليّة لطرده منها. أمّا الحروب الأميركيّة اللاحقة، في أفغانستان والعراق، والتي لم تحظ بالغطاء السياسيّ الذي حظيت به حرب 1991، فانتهت ما بين استنزاف وانسحاب اتّخذا في أحيان كثيرة أشكالاً مُهينة.
هكذا يتبدّى أنّ تظلّم المتظلّمين من الوحدة القطبيّة الكاسحة الماسحة إنّما كان قناعاً لتظلّمهم الفعليّ من غياب الاتّحاد السوفياتيّ وعدم نشأة اتّحاد سوفياتيّ بديل. ذاك أنّ الحنين إلى إمبراطوريّة جبّارة تعزّز أنظمة الاستبداد في العالم هو ما يحرّك العواطف والألسنة، فتتّجه إلى أَسْطَرة القوّة الأميركيّة فيما تعلن تسجيل الانتصارات عليها بوتيرة شبه يوميّة!
هذا، في أغلب الظنّ، ما يفسّر التناقض المنطقيّ الذي يتخبّط فيه أصحابه. فروسيا بوتين، عندهم، أقرب إلى بديل عن ضائع يبدو أنّ ضياعه سيطول. لكنْ أيّ جبروت أعظم سوف يُنسب إلى الولايات المتّحدة إذا ما هُزمت روسيا بوتين في هذه المواجهة؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خلل منطقيّ في نظريّة الأحاديّة القطبيّة المطلقة خلل منطقيّ في نظريّة الأحاديّة القطبيّة المطلقة



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 17:49 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا
المغرب اليوم - المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا

GMT 19:51 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي
المغرب اليوم - لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي

GMT 09:18 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ناصر بوريطة يتعهد بدعم 350 فاعلاً غير حكومي ماديا خلال سنة 2026
المغرب اليوم - ناصر بوريطة يتعهد بدعم 350 فاعلاً غير حكومي ماديا خلال سنة 2026

GMT 01:06 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

بسمة وهبة تدعم زوجة كريم محمود عبد العزيز وتشير لنهايتهم
المغرب اليوم - بسمة وهبة تدعم زوجة كريم محمود عبد العزيز وتشير لنهايتهم

GMT 04:27 2012 الإثنين ,17 أيلول / سبتمبر

زيت نخالة الأرز قادر على خفض الكولسترول

GMT 06:18 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

موجبات التوظيف المباشر في أسلاك الشرطة

GMT 20:34 2018 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

موعد انطلاق بطولة مجلس التعاون الخليجي للغولف في مسقط

GMT 03:33 2018 الأربعاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

"الموناليزا"النيجيرية تعود إلى موطنها إثر العثور عليها

GMT 18:27 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

سويسرا تطرد فرنسياً تونسياً بشبهة الإرهاب

GMT 10:45 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على ديكور الحفلات في الهواء الطلق في الخريف

GMT 03:59 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

ريهانا عارية الصدر في ثوب حريري فضفاض

GMT 07:41 2016 الإثنين ,05 أيلول / سبتمبر

تفاصيل جريمة قتل بشعة في أحد أحياء الدار البيضاء

GMT 16:12 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

وزير الخارجية الأردني يلتقي نظيره الهنغاري

GMT 01:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

بيتكوين تقترب من 100 ألف دولار مدفوعة بفوز ترامب

GMT 05:10 2022 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

كريم بنزيما أفضل لاعب في العام جلوب سوكر 2022
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib