أوكرانيا في شجب الديكتاتورية

أوكرانيا... في شجب الديكتاتورية

المغرب اليوم -

أوكرانيا في شجب الديكتاتورية

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

الأزمة الأوكرانية مالئة الدنيا وشاغلة العالم، لأنها التعبير الأكثر وضوحاً عن اختلال موازين القوى الدولية المستقرة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومع هذا فكل ما يجري اليوم كان يمكن التنبؤ به وليس مفاجئاً، فكل شيء كان يدفع باتجاهه، وسياسات الدول الغربية كانت العامل الأهم في الوصول لهذه اللحظة.
لا يمكن الدفاع عن روسيا، فالحروب لا تبرر أخلاقياً، بل سياسياً، ولكنها ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، وبالمقابل لا يمكن تبرير السياسات والاستراتيجيات الغربية التي أودت بأوكرانيا إلى هذا المصير، هذا موقف منطقي سهلٌ للدول والشعوب البعيدة عن هذه الحرب.
«العولمة» بكل منتجاتها وعلى المستويات كافة أصبحت في مهبّ الريح بسبب أزمة واحدة وأصبح التناقض كبيراً بين «مصالح الاقتصاد» و«مكاسب السياسة» و«اختلافات الثقافة» على المستوى الدولي، والساسة مشغولون بتحقيق المكاسب الآنية لا التفكير الاستراتيجي، وهذا يتجلى في أميركا والدول الغربية أكثر لأنهم قادة «العولمة» والمبشرون بـ«المبادئ» و«الأخلاق» العولمية.
الحرب خشنة بين روسيا وأوكرانيا، ولكنها «باردة» بين روسيا وأميركا والغرب، والحرب الباردة تختلف تماماً عن الحرب الخشنة، ولئن كان كل شيء مباحاً في «الخشنة» فإنه ليس كذلك في «الباردة» وحتى في الحرب الخشنة حرص العالم عبر عقودٍ على وضع قوانين دولية تحدّ من الوحشية وتحكم الصراعات، ووضع هذا كله على المحك في هذه الأزمة يكشف حقائق ويمتحن أفكاراً ومفاهيم ويجبر المراقب على إعادة النظر والتفكير.
لا تخطئ العين أن الاستخدام المكثف والمستعجل يفسد كل شيء، وبعد أن كانت الصراعات الاستراتيجية الدولية يتمّ رسمها والتخطيط لها بأناة وهدوء صارت اليوم طبخة غير ناضجة، فالعقوبات ضد روسيا وبوتين ورجال الأعمال الروس وأسرهم وعائلاتهم، والبروباغندا الإعلامية و«السوشلية» والمرتزقة باسم الجهاد أو الحرية، وتهريب الأسلحة، ظهرت جميعاً كأدواتٍ سياسية عارية وفجة، ودول العالم تراقب وتشاهد، والعاقل يقارن ويحلل، و«الأخلاق» و«المبادئ» التي حين تحويلها إلى «وجبة سريعة» يتم امتهانها بسبب فجاجة الاستخدام.
هذه الهجمة الشرسة والمكثفة على روسيا تخللتها قراراتٌ «ديكتاتورية» على مستويات متعددة وتحديداً في حرية الإعلام والرأي عبر إغلاق قنواتٍ فضائية ومواقع إخبارية، وملاحقة الاستثمارات والمستثمرين، وشراستها وسرعتها وشمولها تهدد بتقويض العديد من المؤسسات الدولية الكبرى، لا السياسية فحسب، بل الاقتصادية والثقافية.
الإمبراطوريات التي تمتلك القوة وتفقد العقلانية تضمحل، هذا حديث التاريخ ومنطق الحياة، والحماسة الآيديولوجية وعقلية «السوشيال ميديا» لا تستطيع أن تحافظ على إرث عظيم وإمبراطورية مبهرة، وأميركا هي الإمبراطورية الأقوى في التاريخ، وستظل كذلك في المدى المنظور مستقبلاً، وهي رائدة في العلم والحضارة والإنسانية، ولكن هذا يتغير حين تتغير السياسات والاستراتيجيات.
نقد الغرب سياسياً لا يعني نقده حضارياً، فالغرب منقسمٌ، بين أميركا وحليفتها بريطانيا وبين بقية الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، وداخل أميركا نفسها، فالإدارة الحالية يتم انتقادها من «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» بشراسة، والفشل حين تتعدد مصادره لا تغطيه الحروب الفجة والتفتيش عن «اختراقٍ» دولي، كما فعل «أوباما» من قبل في «الاتفاق النووي» مع إيران، الذي تستميت الإدارة الحالية في إحيائه، ولا تبدو روسيا مستعجلة بذات القدر، ويا للمفارقة.
لقد اعتقدت «الأوبامية» أن الشرق الأوسط غير مهمٍّ، واتخذت سياسات غير متزنة تجاهه، ولذلك فتشت دول المنطقة عن دولٍ عظمى تعدّل هذه الانسحابية الأميركية فاتجهت لنسج علاقاتٍ مع روسيا أو الصين، فعلت ذلك السعودية والإمارات وإسرائيل وتركيا، حلفاء أميركا التقليديون في المنطقة، وأي صانع قرارٍ أو مفكر استراتيجي في واشنطن كان يستطيع أن يرى هذا قادماً، فلكل فعلٍ ردة فعلٍ، ولكن معايير جودة النخب السياسية والعقول الاستراتيجية هناك شهدت تقهقراً ملحوظاً.
بما أن لديهم «أخلاقاً» و«مبادئ» مثالية فهم ليسوا بحاجة إلى السياسة، هكذا يفكر اليسار الليبرالي في أميركا، وهذا تفكير حدّي يدفع باتجاه «الديكتاتورية» التي تُبنى على المثالية الزائفة، وتكون تجلياتها في السياسة والثقافة والإعلام، وهم يبررون لأنفسهم، ولكن تكرار تلك التبريرات من غيرهم من الشعوب دون تمحيصٍ ليس من العقل في شيء مع اختلاف المعطيات والسياقات.
ذاكرة شعوب المنطقة ليست قصيرة جداً، فقبل عامٍ وبضعة أشهرٍ كانت الإدارة الأميركية الحالية تهاجم وبشراسة دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات بسياساتٍ ومواقف وتصريحاتٍ لا تتسم بالودّ ولا تعبّر عن أي اهتمامٍ بالمصالح المشتركة، ولا بقيمة التحالف الطويل وإرث الانتصارات في الحرب الباردة، فكان طبيعياً أن تكون المواقف السياسية مختلفة هذه المرة عمّا سبق. في سنة واحدة، تم الضغط على الحلفاء، وإعاقة الحرب في اليمن، وسحب أسلحة دفاعية فاعلة، وتعطيل صفقات تسليحٍ نوعية، وتعامٍ مقصودٍ عن كل الإصلاحات التاريخية والنوعية التي تجري، وبالمقابل، تغاضٍ عن كل الجرائم الإيرانية المخالفة لكل القوانين الدولية واستماتة لإعادة إحياء «الاتفاق النووي» المشؤوم في فيينا، وارتخاء مريبٌ تجاه التمدد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والدول الحية والقوية تحسن تبصر مواضع أقدامها في الأزمات الدولية والحروب الباردة.
الإمبراطوريات المتقهقرة في القوة - بإرادتها أو مرغمة - تحرق حلفاءها، وأميركا مع فرنسا في «الغواصات» ومع أوكرانيا وأوروبا كلها في الأزمة الحالية مثالٌ واضح، فطبيعة «التحالفات» تقتضي طرفين ومصالح، وحين يتم الإخلال بهذه التركيبة تختلّ التحالفات، وقد فعلت الإدارة الحالية كل شيء تقريباً لتخسر حلفاءها في المنطقة.
للتأكيد، فالدخول الروسي خطير، والحرب مفجعة بطبيعتها، ولكن روسيا - ببساطة - وجدت عدوّها (الناتو) يتقرب منها منذ سنوات طويلة من دون مبرر وقد سعت بكل الطرق لإبعاده فلم تستطع لأنه مصرٌّ ومستمرٌّ وخطير، وأوكرانيا مجاورة لروسيا وتربطها بها وشائج اجتماعية وثقافية واقتصادية وتاريخية وهي جغرافياً بعيدة جداً عن أميركا، وفي النهاية تمّ دفع أوكرانيا دفعاً لتصبح بين فكّي الأسد ثم تركت لمصيرها، والحديث عن «قوة أوكرانيا» و«خسائر روسيا» فيه تحريض لأوكرانيا لتخسر أكثر.
أخيراً، فالعلاقات الدولية المتزنة التي يتم بناؤها في سنواتٍ لا يمكن تدميرها في أيامٍ لمصلحة حليفٍ لم يعد كما كان، كما أنه من غير المفيد استجرار مواقف قديمة كانت جديرة بالإشادة في مراحل تاريخية سابقة واستخدامها اليوم على واقعٍ مضطربٍ وتوازنات دولية مختلفة تماماً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوكرانيا في شجب الديكتاتورية أوكرانيا في شجب الديكتاتورية



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة
المغرب اليوم - تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة

GMT 01:12 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين
المغرب اليوم - ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين

GMT 02:56 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع
المغرب اليوم - دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع

GMT 02:06 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع
المغرب اليوم - الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع

GMT 02:03 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منى أحمد تكشف أن لكل برج ما يناسبه من الأحجار الكريمة

GMT 14:24 2016 الإثنين ,06 حزيران / يونيو

"السياسة العقارية في المغرب " ندوة وطنية في طنجة

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 05:10 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة السوق المالية السعودية تقر لائحة الاندماج المحدثة

GMT 07:31 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

طرح علاج جديد للوقاية من سرطان الثدي للنساء فوق الـ50 عامًا

GMT 23:39 2012 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر: تزويد المدارس بالإنترنت فائق السرعة العام المقبل

GMT 08:26 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا قدمتم لتصبحوا صحفيين وناشطين؟

GMT 00:26 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة المنشط الإذاعي نور الدين كرم إثر أزمة قلبية

GMT 02:33 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

"رينود" يتسبب في تشنج الأوعية الدموية لأصابع اليدين

GMT 00:25 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

مي عمر تؤكّد أهمية تجربة عملها مع عادل إمام

GMT 09:51 2016 السبت ,10 كانون الأول / ديسمبر

بشرى شاكر تشارك في مشروع طاقي في ابن جرير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib