ماكينة الرعب تتفكك

ماكينة الرعب تتفكك

المغرب اليوم -

ماكينة الرعب تتفكك

بقلم : توفيق بو عشرين

الثورة مازالت حية، والذي يريد أن يتأكد من ذلك، فما عليه إلا أن يفتح التلفزيونات والإذاعات والمواقع الإلكترونية والصحف، ليرى الضحية يحاكم الجلاد.. أهلا بكم في جلسات الاستماع العلنية التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، في إطار تصفية درب الألم وذاكرة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في بلاد الزيتون ما بين 1955 و2013. إنه تمرين قاسٍ لكنه ضروري من أجل الدرس والعبرة وعدم تكرار ما جرى.
جلستان فقط للاستماع إلى عينة صغيرة من ضحايا بورقيبة وبنعلي كانتا كافيتين لأن تهتز تونس مرة أخرى، ويقتنع الكبير والصغير بأن ثورة الياسمين كانت ضرورية لتوقيف آلة القتل والتعذيب والانتقام من المعارضين. وإذا كانت تونس اليوم تعاني أزمات سياسية واقتصادية وأمنية، وإذا كانت تونس لم تستعد بعد عافيتها، فمقابل هذا، تعري البلاد جسدها المثخن بالجراح تحت أشعة الشمس، والغرض هو فضح آلة القمع، وتلقيح المجتمع ضد السلطوية، وإقناع النخبة بأن حقوق الإنسان وكرامة البشر واستقلالية القضاء ونزاهة الشرطة واحترام دولة القانون ليست إكسسوارات، وأن الإفلات من العقاب ليس قدرا محتوما، وأن ساعة الحساب ستدق في الأرض قبل السماء.
في تونس بنعلي، لم يكن التعذيب غلطة شخص أو جهاز، ولم يكن الاختطاف حادثة معزولة، ولم يكن الاغتصاب نزوة سجان، ولم تكن الأحكام الجائرة استثناء من القاعدة. كانت في البلاد منظومة كاملة للتعذيب والإهانة والانتقام من المعارضين، إسلاميين ويساريين، حقوقيين وصحافيين، عمالا وموظفين. كل هذا تحت شعار تصفية منابع التطرف والإرهاب.
يحكي سامي براهم، عضو حزب النهضة الإسلامي، كيف كان الجلادون يجردون السجناء من ملابسهم، ويضربونهم بالعصي، ويضعونهم فوق بعضهم البعض أكواما بشرية وهم عراة، في عنف جسدي وجنسي ونفسي غير مفهوم. كل هذا حدث بعد المحاكمات وليس قبلها، وبعد إدانتهم بالمنسوب زورا إليهم. التعذيب هنا لم يكن غرضه انتزاع اعتراف أو الإقرار بجريمة.. التعذيب هنا كان غرضه كسر الإنسان، وبث الرعب في نفسه حتى ينقله إلى أسرته ومجتمعه، فلا يعود أحد يقدر على فتح فمه أو معارضة حاكمه. بسمة البلعي وقفت بوجه كالح أمام الجمهور، تحكي قصتها الأليمة التي تبدأ بمشهد مرعب يقف فيه مخبر يمسك بيده تفاحة وهو يقضمها قائلا لبسمة الممزقة الثياب: «أنا ماجي ناكلك»… بسمة لم تتعرض هي فقط للتعذيب والمعاملة الوحشية، بل أسرتها كاملة ذاقت صنوفا من وحشية نظام بنعلي، حيث تحكي كيف جاؤوا بوالدها الشيخ، وبدؤوا يعذبونه أمام عينيها، وهي تصرخ وتطلب منهم أن يعذبوها بدلا عنه. كل هذا كان يحدث في تونس التي كان العالم الغربي معجبا بنموذجها.. نموذج «تنمية بدون ديمقراطية» و «تحديث بدون إنسانية».
جلسات تعرية الكتاب الأسود لانتهاكات حقوق الإنسان في الستين سنة الأخيرة من عمر الدولة في تونس، تدخل ضمن مسلسل للعدالة الانتقالية الذي تشرف عليه هيئة الحقيقة والكرامة، التي تأسست بموجب قانون بعد الثورة، والهدف، كما تقول رئيسة الهيئة سهام بنسدرين: «ليس التشفي في الجلاد ونظامه، وليس بث الأحقاد، ولكن الهدف هو قراءة الصفحات السوداء من تاريخ البلد، وتحديد المسؤوليات، فلا صوت يعلو فوق صوت الضحايا، وبعدها، فلتغط الفظاعات برداء التسامح والوعد بعدم تكرار ما جرى».
هذه ثاني تجربة للعدالة الانتقالية تجري في العالم العربي بعد المغرب، لكن الأمل كل الأمل أن تحقق التجربة التونسية ما لم تستطع التجربة المغربية تحقيقه، ذلك أن جلسات الاستماع التي نقلت عبر التلفزة، والمجلدات التي كتبت من أفواه الضحايا، والتوصيات التي انبثقت عن هيئة الإنصاف والمصالحة، لم تكن كافية لتجعل البلاد منطقة آمنة من انتهاكات حقوق الإنسان والمحاكمات الصورية، ولم تكن كافية لإرساء دعائم قضاء مستقل عن السلطة، ولم تكن كافية لإرساء حكامة جيدة في المؤسسات الأمنية. مازالت البلاد تعزف على لحنين، وتتصرف، أحيانا، كدولة حق وقانون، وتتصرف، أحيانا أخرى، كدولة مزاج بلا حق ولا قانون.
كان الصحافي والأديب الكبير، عبد الجبار السحيمي، يرسم صورة بليغة لهذا الوضع في عموده «بخط اليد» على صفحات جريدة «العلم»، فيكتب: «إننا نعيش في بيت جميل، لكننا لا نأمن أن نطرد منه في أي لحظة. لا توجد ضمانات خلف آلة السلطة».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماكينة الرعب تتفكك ماكينة الرعب تتفكك



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة
المغرب اليوم - تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة

GMT 01:12 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين
المغرب اليوم - ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين

GMT 02:45 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

قرار قضائي لصالح أحمد عز في نفقة توأم زينة
المغرب اليوم - قرار قضائي لصالح أحمد عز في نفقة توأم زينة

GMT 02:03 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منى أحمد تكشف أن لكل برج ما يناسبه من الأحجار الكريمة

GMT 14:24 2016 الإثنين ,06 حزيران / يونيو

"السياسة العقارية في المغرب " ندوة وطنية في طنجة

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 05:10 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة السوق المالية السعودية تقر لائحة الاندماج المحدثة

GMT 07:31 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

طرح علاج جديد للوقاية من سرطان الثدي للنساء فوق الـ50 عامًا

GMT 23:39 2012 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر: تزويد المدارس بالإنترنت فائق السرعة العام المقبل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib