بعد أكثر من 80 عاماً على إنزال النورماندي، تعود وصفات ومكونات ظهرت خلال الاحتلال الألماني لفرنسا إلى الواجهة من جديد.بحلول يونيو/حزيران 1940، كانت القوات الألمانية قد اجتاحت فرنسا خلال ستة أسابيع فقط، ونتج عن ذلك وقوع أكثر من نصف البلاد تحت الاحتلال.ومع مرور وقت قصير، بدأ تقنين المواد الأساسية التي لطالما ارتبطت بالمطبخ الفرنسي مثل الجبن والخبز واللحم، وبحلول عام 1942، كان بعض المواطنين يعيشون على ما لا يزيد عن 1,110 سعرات حرارية في اليوم.
وحتى بعد نهاية الحرب في عام 1945، استمر تنظيم توزيع الغذاء في فرنسا تحت إشراف الدولة حتى عام 1949.
ذلك الحرمان ترك بصمة واضحة على الطريقة التي أكل بها الفرنسيون في أثناء الحرب وبعدها مباشرة، لكن بعد أكثر من 80 عاماً على نزول قوات الحلفاء في نورماندي لتحرير فرنسا يوم السادس من يونيو/حزيران 1944، قلّة من الزوار يدركون أن صدى ذلك الاحتلال لا يزال يتردد في تفاصيل المشهد الغذائي الفرنسي حتى اليوم.
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، تخلّى الفرنسيون عن كثير من المكونات التي ساعدتهم على النجاة خلال سنوات الاحتلال القاسية؛ جذور النباتات المألوفة، وحتى خبز الريف الكثيف، نُبذوا إلى حدّ أنهم كادوا يُمحَون من الذاكرة.
لكن الآن، وفي ظل تلاشي الروابط الذهنية مع الحرب، يظهر جيل جديد من الطهاة وصنّاع الذوق ممن يعيدون إحياء الأطعمة التي حافظت على حياة الفرنسيين في أصعب الظروف.
لم يبقَ الكثير من سكان فرنسا ممّن عايشوا سنوات الحرب العالمية الثانية ويملكون ذاكرة حية عن تفاصيل تلك الحقبة، والأقل من ذلك هم من يختارون الحديث عنها.
الكاتبة كيتي مورس، على سبيل المثال، لم تكتشف "مذكّرات ووصفات الاحتلال" التي تركها جدّاها إلا بعد وفاة والدتها، وقد نشرت تلك المواد عام 2022 في كتاب حمل عنوان: "مرٌّ وحلو: يوميات الحرب ووصفات موروثة من فرنسا تحت الاحتلال".
تقول مورس: "لم تخبرني والدتي بأي شيء من هذا".
أما ألين بلا، التي كانت في التاسعة من عمرها عام 1945، فقد نشأت في كنف عائلة تملك بقالة صغيرة في جنوب فرنسا، ولذلك تتذكّر تلك الأيام أكثر من غيرها.
وتقول: "لم يكن مسموحاً لك إلا ببضعة غرامات من الخبز يومياً"، وتضيف: "بعض الناس توقفوا عن التدخين – خاصة من لديهم أطفال، وكانوا يفضلون المقايضة بالطعام".
هذا النقص الواسع في المواد الغذائية أوجد بدائل اصطناعية: فاستُخدم السكرين بدلاً من السكر، وحلّ السمن النباتي أو شحم الخنزير محل الزبدة، وبدلاً من القهوة، كان الناس يغلون الجذور أو الحبوب، مثل البلوط، والحمص، أو الشعير، الذي تتذكّر بلا كيف كان القرويون يحمّصونه في المنازل.
ورغم أن كثيراً من هذه المشروبات اختفى مع الوقت، ظلّت قهوة الهندباء (chicory coffee) حاضرة على موائد الفرنسيين – لا سيما في الشمال.
كما بدأت العلامة التجارية "ريكوري"، وهي مزيج من قهوة الهندباء والقهوة السريعة التحضير، بالظهور على رفوف المتاجر منذ خمسينيات القرن الماضي.
ومؤخراً، بدأت علامات مثل "شيريكو" بإعادة تقديم هذا المشروب لجيل جديد، وتسويقه كبديل صحي وصديق للمناخ للقهوة التقليدية.
وبحسب المؤرخ المتخصص في فن الطبخ الفرنسي باتريك رامبورغ، مؤلف كتاب "تاريخ المطبخ وفن الطبخ الفرنسي"، فإن بقاء قهوة الهندباء في المشهد الفرنسي حتى اليوم يعود في جزء كبير منه إلى مذاقها. يقول: "طعم الهندباء طيب"، مضيفاً: "لا تذكّرك بالضرورة بفترات التقشّف".
لكن الحال لم يكن كذلك مع منتجات أخرى، مثل اللفت السويدي والخرشوف المقدسي، وهما من الخضروات التي كانت تُستخدم غالباً كعلف للحيوانات قبل الحرب، كما يشير مؤرخ الحرب العالمية الثانية فابريس غرونار.
ومع بدء تقنين البطاطس في نوفمبر/تشرين الثاني 1940، اضطر الفرنسيون إلى الاعتماد على هذه البدائل بكثافة، وبعد الحرب، أصبحت تلك الخضروات أشبه بـ"تابو"، كما يقول رامبورغ. وتضيف الكاتبة كيتي مورس: "والدتي لم تطهُ يوماً لفْتاً سويدياً في حياتها".
لكن بعد جيلين من الحرب، عاد الخرشوف المقدسي بقوة، وأصبح حاضراً في كل مكان تقريباً في مشهد الطعام الباريسي، بدءاً من الأطباق العصرية في حانة النبيذ "بالوما" في بيلفيل، إلى قائمة السبورة التقليدية في مطعم "لو بون جورج".
وإلى جانب الباسترنيب واللفت واللفت السويدي، تُعرف هذه الخضروات غالباً باسم "الخضروات المنسية"، بحسب الشيف ليو جورجيس، مالك مطعم "ألمنـاخ مونمارتر"، الذي يقول إن الطهاة الفرنسيين أعادوا اكتشافها قبل نحو 15 عاماً.
يقول جورجيس: "اليوم، ترى الخرشوف المقدسي في كل مكان، إلى جانب اللفت السويدي واللفت الذهبي"، وبصفته طاهياً يؤمن بالمحاصيل الموسمية، يرى في عودة هذه الخضروات مصدر إلهام، لا سيما في فصل الشتاء، "من دونها، نبقى عالقين مع الملفوف واليقطين فقط".
تقول أبولونيا بوالان، وهي الجيل الثالث في عائلتها الذي يدير مخبز "بولينا" الشهير الذي تأسس عام 1932، إن الخبز الفرنسي شهد تحولاً مماثلاً خلال سنوات الحرب، قبل اندلاع الحرب، كانت شهرة الرغيف الأبيض – لا سيما الباغيت – قد تصاعدت بسرعة، إذ لم تكن أسعارها تخضع للقيود المفروضة على خبز العجين المُخمّر، وسط سوق يعجّ بالمنافسة.
لكن في أغسطس/آب 1940، كان الخبز من أولى المنتجات التي فُرضت عليها الحصص التموينية، وسرعان ما حلّت الأنواع ذات القوام الأغمق محل الخبز الأبيض، بعد أن خُلطت بالنخالة، أو دقيق الكستناء، أو البطاطس، أو الحنطة السوداء.
كما حُظر في القانون بيع الخبز الطازج، وهو إجراء يرى البعض أنه فُرض عمداً لتقليل جاذبية الخبز، وبالتالي الحدّ من استهلاكه.
تقول ألين بلا: "لم أعرف الخبز الأبيض يوماً!"، وتضيف متذكرة: "حين تذهب لتناول الطعام عند أحدهم أيام الحرب، كنتَ تأخذ خبزك معك – حصّتك الخاصة، قطعتك أنت من الخبز".
وبعد الحرب، تصاعد الطلب على الخبز الأبيض بشكل كبير، فقد تمسك مؤسس مخبز بوالان، بيار بوالان، بإنتاج خبز العجين المُخمّر الذي عشقه، ورفض مواكبة رغبة السوق في الخبز العصري، مما أدى – بحسب حفيدته أبولونيا – إلى طرده من نقابات الخبازين.
لكن في السنوات الأخيرة، عاد الاتجاه ليدور دورة كاملة، إذ انخفض استهلاك الباغيت بنسبة 25 في المئة بين عامي 2015 و2025، في حين ارتفعت شعبية ما يُعرف بالخبز "الخاص"، المصنوع من الحبوب الكاملة أو الأصناف الموروثة، وتعلّق بلا: "من الجيّد أن نعود إلى أنواع خبز أقل بياضاً بعض الشيء".
أما بالنسبة إلى فابريس غرونار، فإن الأثر الأعمق والأكثر ديمومة الذي تركته الحرب على ثقافة الطعام في فرنسا يتمثل في العقلية التي ترفض الهدر، ويقول: "ما تبقّى بعد الحرب هو حالة ذهنية أكثر من كونه ممارسات طهي"، ويتفق معه المؤرخ رامبورغ: "حين لا يكون لديك طعام، تدرك قيمته جيداً".
واضطر الفرنسيون إلى الإبداع بما هو متاح لديهم، ففي منطقة أرديش جنوب شرق فرنسا، أعادت شركة كليمان فوجيه تسويق معجون الكستناء المحلّى تحت اسم جِنُوفيتين، وهو اسم ذو وقع طبي، مما سهّل تقديمه كمقوٍّ غذائي، بل ووُصف أحياناً كعلاج طبي.
أما في منطقة كامارغ الساحلية، فقد استُخدم نبات السامفير (نوع من الأعشاب البحرية) بديلاً للفاصولياء الخضراء، وكان الجدّ الأكبر للكاتبة كيتي مورس يجمع الفطر البري من جبال فوج القريبة، فيما زرع سكان المدن، ممن يملكون شرفات، صناديق نوافذهم بالجزر والكرّاث، حتى حديقة التويلري العامة وسط باريس تحوّلت إلى بساتين جماعية للطعام.
وبحسب المؤرخ باتريك رامبورغ، فإن هذه العقلية التي تركز على الاكتفاء الذاتي "أثّرت في الجيل الذي عاش الحرب، وكذلك في آبائنا، لأنهم كانوا أبناء من خاضوا تلك التجربة".
ومع تراجع الحاجة إلى هذه الوسائل، دخل المطبخ الفرنسي مرحلة جديدة من التغير، ففي عام 1963، افتُتح أول متجر ضخم من سلسلة كارفور، وسرعان ما بدأت المتاجر الكبرى تحلّ محلّ البقالين الصغار.
ويشير فابريس غرونار إلى أن هذا التحوّل كان مدفوعاً جزئياً بـ"الريبة" التي خلفتها ممارسات بعض البقالين خلال الاحتلال النازي، عندما رفعوا الأسعار بلا ضوابط لمجرد قدرتهم على ذلك.
ويقول غرونار: "مع نهاية الحرب، حمل المستهلكون شعوراً حقيقياً بالمرارة تجاه أصحاب المحلات الصغيرة"، أما في المتاجر الكبرى، فـ"الأسعار ثابتة".
وبعد مرور ثمانية عقود، عاد بعض السكان – مدفوعين هذه المرة بالقلق من تغيّر المناخ – إلى دعم البقالين المحليين الصغار، مثل متاجر تِرُوار دافونير، وهي سلسلة محلية تروّج لمفهوم "استهلاك المنتجات المحلية"، وتنتشر في أحياء باريس.
في المقابل، يلجأ آخرون إلى تقنيات من الماضي أنقذت كثيراً من الناس خلال الحرب – مثل التعليب، والتخليل، والتجميع من البرية.
ويقول غرونار: "من تمكنوا من اجتياز الأزمة، هم أولئك الذين كانت لديهم مؤونة محفوظة".
سيدتان تعملان في التعليب في صورة بالأبيض والأسود.
واليوم، عادت عادة ملء المخزن بالأطعمة المجمّعة من الطبيعة لتصبح شائعة من جديد. ففي مدينة كايزرسبيرغ بمنطقة الألزاس، يقدّم الشيف جيروم ييغل، صاحب مطعم ألكيميل، ورشات عمل لتعليم جمع النباتات البرية، تنتهي بوجبة متعددة الأطباق تعتمد على ما جُمع من محيط المكان.
وفي بلدة ميي-لا-فوريه الواقعة على مشارف باريس، ينقل فرانسوا تيفنون ما تعلّمه عن جمع الطعام من جدته من خلال دورات تعليمية تشرح كيفية العثور على النباتات الصالحة للأكل في البرية.
يقول تيفنون: "بعد الحرب، أراد الناس أن يطمئنوا بأنهم لن يعانوا من النقص مجدداً"، فاتجهوا، على حد تعبيره، إلى الإفراط في الاستهلاك، لا سيما من اللحوم – حتى جدته، التي كانت تجمع طعامها من الطبيعة، أصبحت تتناول اللحم في كل وجبة، كل يوم.
ويضيف: "حين تسأل كبار السن لماذا توقفوا عن أكل النباتات البرية؟ تسمع كثيراً منهم يقولون: لأنهم لم يعودوا مضطرين لذلك"، أما تيفنون، فهو لا يزال يمارس جمع النباتات البرية، لأنه يؤمن بأنها مفيدة لصحة الإنسان... ولصحة الكوكب أيضاً.
أما أبولونيا بوالان، فتذهب إلى أبعد من ذلك، تقول: "الحرب لم تغيّر فقط طريقة أكل فرنسا. من المحتمل أنها غيّرت طريقة أكل العالم بأسره"، واليوم، تعود التقنيات والفلسفات التي ساعدت الفرنسيين على الصمود إلى الحياة رويداً رويداً.
قد يهمك أيضــــــــــــــا
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر