القاهرة ـ أ ش أ
في الغرب قامت قيامة الباحثين حول الربيع العربي وفي القلب منه دور الشباب وهمومهم وأحلامهم فمتى تقوم قيامة الباحثين العرب ؟!.
صحيح أن العديد من المقالات والاجتهادات الصحفية تتواتر في العالم العربي حول الشباب وهمومه ومشاكله وتطلعاته ودوره في خضم ما عرف بالربيع العربي ولكن من الصحيح أيضا أن هناك حاجة لدراسات ثقافية وكتب رفيعة المستوى بحثيا تعالج بالعمق وبمنظور عربي كل هذه القضايا الشبابية الملحة وإلا فإن الساحة ستبقى حكرا على كتب تصدر في الغرب مثل هذا الكتاب الجديد.
والكتاب الجديد صدر بالانجليزية للمؤرخ الأمريكي جوان كول بعنوان:"العرب الجدد:كيف يغير الجيل الألفي الشرق الأوسط؟" وهو يسعى للإجابة عن أسئلة تهمنا في هذه المنطقة من بينها سؤال :"هل كان الفيس بوك مسؤولا عن الربيع العربي"؟!.
ثم إن هذا الكتاب يهم هؤلاء الذين يبحثون في طبيعة "القوة التغييرية للشباب" وبالتأكيد فهو يستدعي للأذهان صور المتظاهرين في ميدان التحرير بقلب القاهرة ومؤلفه صاحب اهتمامات واسعة بالتطورات في العالم العربي وله مدونة الكترونية تركز على هذه التطورات من منظور صاحبها ورؤيته الثقافية.
ويرى جوان كول أن الجيل الجديد من الشباب العربي مختلف كثيرا عن الأجيال السابقة وأن الكثير من نجاحات هذا الجيل في إنجاز ما يعرف بالربيع العربي يرجع لاستخدامه وسائل الاتصال الاجتماعي.
وحتى تكون رؤيته مدعومة بحقائق ملموسة يورد الكتاب الجديد أرقاما من بينها أن عدد الشباب التونسي الذي يستخدم وسائل الاتصال الاجتماعي أو "شباب الأون لاين في تونس" تضاعف ليصل إلى 1,7 مليون بين عامي 2006 و2008 وتضاعف مرة أخرى في غضون عام واحد كانت نسبة الذين لديهم هواتف محمولة قد بلغت 90 بالمائة من مجموع عدد السكان المقدر بعشرة ملايين نسمة فيما تتصاعد أعداد مستخدمي الفيس بوك.
أما في مصر فإن نسبة تصل إلى 46 بالمائة من مجموع سكان الحضر كانوا قد شقوا طريقهم لعالم الفضاء الالكتروني وعرفوا "الأون لاين" بحلول عام 2012 وبلغت النسبة 40 بالمائة لهؤلاء المصريين الذين لديهم هواتف محمولة مزودة بإمكانات الانترنت وقدرات العصر الرقمي.
كانت ليبيا أقل اتصالا بالانترنت كما يلاحظ مؤلف كتاب "العرب الجدد" ومع ذلك فإن الشباب الليبي كان عماد القوة التي أطاحت بالنظام السابق لمعمر القذافي وعمد هؤلاء الشباب لتوظيف إمكانات الشبكة المعلوماتية لبث صور لممارسات القمع في ظل هذا النظام وشهادات ضحايا التعذيب وتوجيه رسائل الكترونية لتنظيم مسيرات احتجاجية في الشوارع بل وإذاعة أغاني وأناشيد لتبديد الخوف في النفوس المرتعدة من بطش النظام وقدراته القمعية .
هذا السرد الشامل للأحداث السياسية التي هزت المنطقة العربية يشكل مصدرا حيويا لهؤلاء الذين يريدون فهم هذه الحقبة العاصفة وخاصة الرؤية الغربية للقوة التغييرية للشباب العربي في تلك الحقبة ومرة أخرى يورد الكتاب أرقاما دالة مثل نسب البطالة والتي تراوح ما بين ربع وثلث مجموع الشباب في العالم العربي وترتفع كلما ارتفعت مستويات التعليم !.
هكذا يمكن تأمل دلالة تقدم ثمانية ملايين مصري بطلبات للهجرة إلى الولايات المتحدة في عام 2006 والتسابق بينهم بحثا عما يعرف بالبطاقة الأمريكية الخضراء وعندما جاء عام 2008 كان ما يقرب من نصف الشباب في مصر يتطلعون للسفر للخارج ويربط الكتاب بين مثل هذه الظاهرة والدور الذي قام به الشباب خاصة من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى في ثورة 25 يناير 2011 إلى جانب الدور الذي لعبته بعض النقابات.
ثم يتجه جوان كول لبحث ذلك كله في سياق عالمي أوسع يتضمن أزمة الكساد الاقتصادي و"تجفيف فرص العمل" مع ارتفاع في أسعار السلع والخدمات الأساسية وكلها عوامل أسهمت في تعبئة الشباب في دول كمصر وتونس وكانت وراء الحراك المثير لجيل في العشرينيات من عمره لكن لا يمكن القول كما يوضح هذا الكتاب أن الثورة كانت ثورة الشباب وحدهم .
فنظرة لصور ميادين الثورة وأشهرها ميدان التحرير تكشف فورا عن كثير من المتظاهرين الذين غزا الشيب مفارق شعرهم وهنا تكشف دراسة مسحية لجامعة كامبردج عن حقيقة مثيرة للاهتمام وهي ان عدد الذين تجاوزوا حاجز ال35 عاما وشاركوا في الاحتجاجات كان اكبر ولو قليلا من الذين مازالوا اقل من هذا الحاجز.
حقيقة لعلها تدفع أولئك الذين يصورون كل ما حدث فيما عرف بالربيع العربي وكأنه لا يرجع الا للشباب المتعلم والذي يعاني من البطالة ومع ذلك فان العبارة المستخدمة في هذا السياق التفسيري لحقيقة ما جرى في الربيع العربي وهي "الفقاعة الشبابية" قد تكون موضع تحفظ تماما كما قد يتحفظ البعض على الرؤية الغربية التي منحت أهمية بالغة لدور وسائل الاتصال الاجتماعي في الربيع العربي بقدر ما أغفلت أو قللت من تأثير عوامل أخرى.
إنما الواقع يشهد على أن الإحباط امتد ليشمل فئات متعددة وشرائح واسعة بغض النظر عن الفئة العمرية أو الانتماء الجيلي وعانى الواقع العربي من الطابع المزعج للفساد في أوجه الحياة اليومية فيما شعر الكثير من البشر في تلك المنطقة بأنهم عرضة للتلوث المدمر لأي معان للحياة الكريمة.
وعندما حان الوقت كان الشباب هم الذين اشعلوا شرارة الثورة وبدأوا الاحتجاجات في الشوارع غير ان الكبار من الآباء هم الذين جعلوا هذه الأحداث لا تتوقف إلا بإسقاط الأنظمة الفاسدة والكثير من هؤلاء الكبار قد لا يستخدمون الانترنت الذي منحه الكتاب الجديد "وظيفة توليدية في العملية الثورية التي عرفت بالربيع العربي".
وليس جوان كول في الغرب من منح الانترنت كل هذه الأهمية في خضم الربيع العربي فالصحافة الغربية في اغلبها تعتبر دور الشبكة العنكبوتية "محوريا" في الحركات الاحتجاجية العربية كما أن قراءة هذا الكتاب الجديد بتمعن تكشف عن عدم إسراف المؤلف في تعظيم اهمية وسائل الاتصال الاجتماعي كعامل حاسم في الربيع العربي.
بل أن كول يذهب في هذا الكتاب إلى أن منشورا او كلمة تتناقلها الأفواه ربما كانت اكثر أهمية من الرسائل التي انسابت عبر الفضاء الالكترونية وتناقلتها مواقع الاتصال الاجتماعي.. وإذا كان هناك من موضع للتحفظات على بعض ما ورد في كتاب "العرب الجدد" فإنما يتعلق بمسائل أخرى وإخطاء غربية شائعة ومقولات من قبيل "الفضاء العام".
فمفهوم "الفضاء العام" في العالم العربي يختلف واقعيا عما قد يعنيه المفهوم ذاته في الغرب ذلك ان "الفضاء" في المنطقة العربية يخضع غالبا اما لسيطرة الحكومات او حتى يتحول الى "حكر" لأشخاص لا يمكن ان يعبروا عن المجموع العام وربما اكتسب "الفضاء العام" مفهومه الصحيح في لحظات استثنائية بالمنطقة مثلما حدث في ميدان التحرير بقلب القاهرة اثناء ثورة يناير وقيام الجماهير بتنظيف الميدان في لحظة لا تنسى.
ومن الأسئلة الهامة التي يثيرها كتاب "العرب الجدد" حقيقة تصورات المحتجين في غمار الربيع العربي عن العلاقة بالدولة وهل كانوا بالفعل يتصورون علاقة مختلفة عما ساد من قبل ؟..ولبعض الغربيين مقولات دالة في حقب مختلفة تاريخيا مثل مقولة تي اي لورنس التي ذهب فيها إلى أن العرب في الواقع يؤمنون بالأشخاص وليس بالمؤسسات.
ولا جدال أن لهذه التصورات تداعياتها وانعكاساتها اليومية في الحياة العربية فيما يذهب بعض الباحثين الغربيين مثل لورنس روسين إلى أن تصورات الجيل الشاب في العالم العربي لا تختلف كثيرا عن تصورات الجيل الأكبر ولعلها قضية ثقافية تختص بعلاقة المواطن بالدولة .
فالمواطن العربي كما يشير هذا الكتاب يعتبر الدولة مسؤولة عن كل همومه وعليها أن تلبي كل متطلباته وهو لايتردد في توجيه مخزون إحباطاته الشخصية نحوها ككيان مجرد بما في ذلك إحباطاته الاجتماعية ومشاكل الزواج.
هل يعني ذلك على نحو ما أن الإنسان العربي وخاصة في الجيل الشاب بحاجة لثورة في التفكير وكذلك في طبيعة العلاقات مع الدولة وهي لن تكون الا ثورة في الثقافة او ثورة ثقافية ؟!..على اي حال جوان كول يخلص في كتاب "العرب الجدد" الى ان الجيل الشاب في العالم العربي قد غير مجتمعاته للأبد ومن ثم يحق القول بأنه غير العالم ككل.
إذا كان ذلك صحيحا كما يرى كول فإن من الصحيح أيضا ما يراه حول حاجة الشباب ذاته للتغيير وبناء منظور جديد لرؤية الذات والعالم..فهناك فارق بين النجاح في التغيير وبين التثوير وثمة ما يدعو الشباب لثورة في أنماط تفكيرهم ورؤيتهم لعالم جديد يستشعرون فرصه وا مكاناته حتى يكون بمقدورهم الانخراط في هذا العالم والتمتع بثمار تلك الإمكانات والفرص.
في الغرب قامت قيامة الرؤى حول ما جرى ويجري في الشرق فمتى تهل إشراقه رؤى باحثين في شرقنا ومن وطننا لتتبدد رائحة الكسل وعتمة تضبب الرؤى وإشراقه الحقيقة بكلمات عربية مبصرة ؟!!.


أرسل تعليقك
تعليقك كزائر