ضريبة تطور أم عيوب صناعة ٣

ضريبة تطور أم عيوب صناعة (٣)

المغرب اليوم -

ضريبة تطور أم عيوب صناعة ٣

خالد منتصر
بقلم : خالد منتصر

السمكرة لفظ لا يحبه الأكاديميون وينظرون إليه بنظرة تعالٍ ونفور، برغم أننى أراه أنسب وصف لما يفعله التطور فى الكائنات من أجل التكيف والانتقاء والانتخاب الطبيعى. وهذا سيفسر لنا ما كتبناه فى المقالين السابقين عن ضريبة التطور، التى إن لم نعترف بها سنقع فى فخ عدم التأدب مع الخالق ونسبة عيوب الصناعة إليه. أى أن رافض التطور من حيث لا يدرى، يتوهم أنه بهذا الرفض يقود الشباب للإيمان، وهو فى الحقيقة يقودهم للاتجاه العكسى، لأن هذه الأجزاء تشريحيًا بها أخطاء وعيوب طبقًا للكتالوج الذى يتخيله.

لماذا اخترت السمكرة وهو وصف يفضله واحد من أهم علماء التطور وهو دوكنز؟ تخيل أنك ذهبت بسيارتك الفيات إلى السمكرى وقلت له احتفظ بهيكلها لكن ببعض السمكرة اجعلها مرسيدس. بالطبع بعد السمكرة، ولكى يجعلها مرسيدس، ستكون هناك بعض العيوب أو الأعراض الجانبية لهذا الطلب من جانب حضرتك فى السيارة الأصلية. وإذا كانت سيارتك مخصصة لأجواء الإسكيمو، وجئت بها لبلاد الخليج، وأردت تركيب تكييف فيها بدون مكان مخصص له، بالطبع من خلال السمكرة والتعديل ستحدث بعض العيوب.

وهذا بالضبط ما حدث مع تطور الإنسان. فمثلًا، نقص المساحة داخل الفك لاستيعاب ضروس العقل أدى إلى انحشارها. هناك ألم والتهابات، وأحيانًا نلجأ للجراحة وخلعها. ما علاقة هذا بالتطور؟ الإجابة هى أن الفك البشرى تقلص بمرور الزمن نتيجة تغير النظام الغذائى من مضغ الأطعمة الصلبة النيئة إلى الأطعمة المطبوخة والرخوة، لكن الجينات المسؤولة عن تطوير ضروس العقل لا تزال موجودة. ولو رفضنا التطور، سيفرض سؤال عويص مستفز نفسه، وهو هل ضرس العقل هذا موجود فقط لمصلحة أطباء الأسنان، كما هى الزائدة الدودية لمصلحة الجراحين، لكى يحققوا دخلًا أكبر من الخلع والجراحة!!؟ كذلك الحوض الضيق نتيجة تطور المشى على قدمين، بينما تطور حجم دماغ الجنين إلى حجم كبير يتفق مع نمو المخ الإنسانى لمزيد من الإدراك والخيال والقدرات العقلية، لم يتماشَ اتساع الحوض مع هذا الحجم، مما يجعل الولادة صعبة وخطيرة أحيانًا. ما هى علاقة هذا بالتطور؟ التوازن بين القدرة على المشى بفعالية، والحفاظ على فتحة حوض تكفى للولادة، نتج عنه هذا التعارض التطورى المعروف بـ«Difficult Birth Trade-Off».

أما العصب الحنجرى الراجع فهو من أهم الدلائل على تلك الضريبة التطورية. وهناك تجربة مشهورة موجودة على اليوتيوب يجريها دوكنز من خلال تشريح رقبة الزرافة ليجعلك ترى بنفسك المسافة التى يقطعها هذا العصب، والالتفاف العجيب الذى لا منطق له ولا لزوم حول شريان الأورطى حتى يعود ويغذى الحنجرة!! يعنى كأنك بتروح من القاهرة للإسكندرية عن طريق أسوان! وإذا لم تقتنع بأن هذا المسار يعود إلى الأسلاف المائية للفقاريات فأنت قد وقعت فى مشكلة بلا حل، حيث كان القلب فى موضع مختلف، ومع تطور الرقبة لم يعدَّل المسار، بل كان البديل هو تمدد هذا العصب مع نمو الرقبة حتى صار رقيقًا جدًا من هذا المط والمد.

وأيضًا ما يطلق عليه الشبكية المقلوبة، والتى فيها مستقبلات الضوء خلف طبقة الأعصاب والأوعية الدموية. يعنى كأنك طلعت سلوك التليفزيون من أمام الشاشة! هذا يجعل الضوء يمر أولًا بهذه الطبقات ويخلق نقطة عمياء عند خروج العصب البصرى. والعجيب أن الأخطبوط لديه تصميم أفضل حيث هذه المستقبلات تواجه الضوء مباشرة. لكن لماذا هذا الوضع المعكوس؟ هذا بسبب الطريقة التى تطورت بها العين من الفقاريات، فهى قد تطورت من طبقة من الخلايا العصبية الموجودة فى الدماغ، مما أدى إلى هذا الترتيب العكسى.

وهذه الأمثلة السريعة تعطينا ملخصًا عن آلية التطور، فهو «يُسمكر»، أى يحسن التكيفات والتراكيب القائمة ولا يعيد التصميم من الصفر. التطور لا يبتكر حلولًا مثالية، وإنما يُسمكر لكى يتكيف الكائن ويتكاثر.

التطور لا يعبأ بأحلام حضرتك، ولا توقعات سيادتك، ولا بالنموذج الذى تتخيله فضيلتك، هو يساعدك فقط على الاستمرار فى بيئتك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ضريبة تطور أم عيوب صناعة ٣ ضريبة تطور أم عيوب صناعة ٣



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 10:46 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة
المغرب اليوم - أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 07:55 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

إعادة فتح مطار بروكسل بعد توقف مؤقت نتيجة رصد طائرات مسيرة
المغرب اليوم - إعادة فتح مطار بروكسل بعد توقف مؤقت نتيجة رصد طائرات مسيرة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه
المغرب اليوم - أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib