اعتذار «الغارديان» وعقلية الإنكار

اعتذار «الغارديان» وعقلية الإنكار

المغرب اليوم -

اعتذار «الغارديان» وعقلية الإنكار

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

حين يقرر مخطئ الإقدام على الإقرار بارتكاب حماقة خطأ، فإنه يستجمع مخزون النفس من فطرة الخير، التي عليها فُطِر الخلق أجمعين، ومستنداً إليها يخوض مَنْ انتفض صوت الصواب الصامت داخله، المواجهة مع شر أضاع صوابه عندما تسلل إلى العروق منه. ربما يكون ذلك حصل في لحظات غفلة ضمير، أو خلال سنوات جهالة صبا العمر، أو زمن نزق جاهلية نزوات المراهقة، وربما خلال سنين غُرور مطالع الشباب، حين يتصيد الغَرور مكامن ضعف نفوس البشر، فيوقعها في شراكه. بالطبع، لن تحصل هكذا مواجهة بين المرء ونفسه، إلا في حال توفر صدق النيّات، وفيما عدا ذلك، فإنها لن تغادر مربع التدليس وخداع الناس، وهما سلوكان لن يستمرا بلا نهاية، فثمة حين سوف يأتي، إذا أزف الوقت، فتنكشف حقائق علاها غبار الأزمان، وحينئذ يتذكر من نسي، أو تناسى، القول الذي تردد منذ زمن بعيد، والذي خلاصته أنك قد تخادع بعض الغافلين بعضاً من وقت، لكنك لن تخدع كل الناس كل الأوقات.
ضمن السياق أعلاه، يجوز إدراج حدث مهم هز قبل أيام مجتمع الصحافة البريطانية، فبدا لمُعظم من تأمل الوقائع كأنه غير مسبوق، ربما لِعِظَم، أو جسامة مضمونه. ملخص الخبر هو إقرار ملاك صحيفة «الغارديان» بما تضمن تقرير بشأن وجود صلات بين شخص جون إدوارد تايلور، مؤسسها في مانشستر، وبين تجار رقيق آخرين، داخل بريطانيا وخارجها، خصوصاً في الولايات المتحدة. اليوم التالي لصدور ذلك التقرير، صدرت «الغارديان»، وقد تصدر صفحتها الأولى عنوان - أو «مانشيت» إذا شئت - يعلن لجمهورها، أولاً، وللملأ أجمعين، ثانياً، اعتذار ملاكها عن هكذا صلات لا تجمعها أي صلة بمنهج ليبرالي اشتهرت به الصحيفة محلياً، وكذلك عالمياً، عارض دائماً سياسات التمييز العنصري، وساند حركات تحرر في أنحاء مختلفة من أفريقيا وأميركا اللاتينية، وناهض أنظمة انتهجت الاستبداد في أنحاء مختلفة من العالم.
مضمون ما نشرته «الغارديان» في شأن ذلك التقرير يمكن إيجازه بأن ملاك الصحيفة - «Scott Trust» - أصدورا بيان اعتذار عما تضمنه تقرير أكاديمي مستقل بدأ إعداده عام 2020 بشأن الاستعباد، ونُشر يوم الثلاثاء 28 مارس (آذار) 2023، وكشف أن جون إدوارد تايلور، إضافة إلى تسعة على الأقل بين أحد عشر داعماً له في تأسيس الصحيفة عام 1821، كانت لهم صلات بتجارة الرقيق، تحديداً من خلال صناعة النسيج، واستيراد كميات قطن خام هائلة كانت من إنتاج عمال مستعبدين في الأميركتين. تبعاً لذلك، فإن «سكوت تراست» تتوقع استثمار ما يفوق عشرة ملايين جنيه إسترليني (12.3 مليون دولار أميركي- 18.4 مليون دولار أسترالي) وملايين إضافية، لصالح العائلات المتحدرة ممن كانت لهم علاقات بصحيفة «الغارديان» خلال القرن التاسع عشر.
في افتتاحية خُصصت لمناسبة مرور مائة عام على صدورها، ونُشرت في عددها الصادر يوم خامس مايو (أيار) 1921 وضع تشارلز بريستوِتش سكوت، رئيس تحريرها يومذاك، ملخصاً للمبدأ الذي سوف تعتمده الصحيفة، طوال اللاحق من سنواتها، تضمن التالي: «التعليق حر، لكن الحقائق مقدسة». هذه العبارة لم تزل حتى هذا اليوم تحتل مكانها، مع صورة تشارلز سكوت، في ترويسة صفحات «الغارديان» المخصصة للرأي.
وفق تعاملها مع مضمون تقرير كشف علاقات مؤسسيها الأوائل بتجارة الرقيق، واضح أن صحيفة «الغارديان» لم تخن ذلك المبدأ على الإطلاق. صحيح أن تعامل الصحيفة مع حدث معيّن قد لا يعجب كثيرين، وقد تختلف الآراء بشأن مدى حيادها إزاء أحداث معينة؛ خصوصاً عندما يقاس الحياد وفق هوى محدد، أو أجندة فريق ما، لكن الأرجح أن يجوز أيضاً القول إن مجرد الالتزام، ولو نسبياً، بمبدأ الإقرار بالخطأ، ثم امتلاك شجاعة الاعتذار عنه، هو إنجاز في حد ذاته. ضمن هذا السياق، ترى كم من جهة في العالم العربي، وكذلك الإسلامي، حان وقت إقرارها بما ارتكبت من أخطاء، ومن ثم الاعتذار لضحايا أخطائها التي ربما ترقى إلى مستوى خطايا، كما في القبول بسلوكيات يومية ليست تقل سوءاً عن تجارة الرقيق، مثل إعطاء ذوي البشرة السمراء صفة «عبيد»؟ نعم حدث هذا، ولم يزل يحدث، في عالم عربي يحلو لكثيرين في صالونات نخبه الثقافية تحديداً أن تنزهه عن أي عنصرية، رغم أنها تنضح بالكثير من أشكالها. أولئك أناس يعيشون بعقلية إنكار ما يجري حولهم واضحاً وضوح الشمس في منتصف النهار.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اعتذار «الغارديان» وعقلية الإنكار اعتذار «الغارديان» وعقلية الإنكار



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

الأناقة الكلاسيكية تجمع الملكة رانيا وميلانيا ترامب في لقاء يعكس ذوقًا راقيًا وأسلوبًا مميزًا

نيويورك - المغرب اليوم

GMT 10:00 2024 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

الفنان المغربي نعمان بلعياشي يُصدر جديده الفني “حياتي”

GMT 23:25 2020 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

مسلسل عالمي يجمع بين "سوبرمان" ونجوم عرب

GMT 16:47 2020 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

أجمل عبايات بموديل المعطف موضة شتاء 2020

GMT 03:49 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

قائمة أسعار شيري chery من الوكيل بعد التخفيضات الأخيرة

GMT 18:31 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوداد البيضاوي المغربي يسعى للتفاوض مع يحيى عطية الله

GMT 19:56 2019 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

مالك ليفربول ينجو من حادث طائرة بعد العودة من سالزبورج

GMT 08:51 2019 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على الصور التشويقية الأولى لـ"كيا أوبتيما 2021"

GMT 07:19 2019 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

سامسونج تحل مشكلة "بصمة الإصبع" في هواتف S10
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib