بقلم : مشاري الذايدي
السُّخرية من النفس من أقوى مظاهر الثقة، وأمضَى أسلحةِ الذات، ومن أذكى الحِيِل النفسية في إعطاب سلاح الخصوم، حيث يفقد العدوُّ الساخر معناه حين يجد خصمَه يوافقه أو يسبقه في إقرار هذا العيب أو ذاك، بل إظهاره والسخرية منه.
من أشهر قصص السخرية من الذات في التراث العربي قصة الشاعر العبّاسي أبي دلامة:
دخل أبو دلامة على الخليفة العبّاسي المهدي وعنده من «كِبار القوم» أمثال إسماعيل بن محمد، وعيسى بن موسى، والعباس بن محمد، ومحمد بن إبراهيم الإمام، وجماعة من بنى هاشم.
فقال له الخليفة: لئن لَمْ تهجُ واحداً ممَّن في البيت لأقطعنّ لسانَك. فنظرَ إلى القوم، فكلما نظرَ إلى واحدٍ منهم، غمزَه بأنَّ عليه رضاه. فقال أبو دلامة، في حركة عبقرية:
ألا أبلغ لَدَيكَ أبَا دُلامَه فَلَيسَ من الكِرامِ ولا كَرَامَه
إذا لَبِسَ العِمَامَةَ كانَ قِرداً وخِنزِيراً إذا نزعَ العِمَامَه
نجا الشاعرُ الظريف من خلال هَجوِه نفسه!
وعلى نهج أبي دلامة، مضى جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي ترمب، حين حوّل سخرية منه إلى سلاحٍ له فطبّق النكتة نفسها على نفسه!
ظهر جي دي فانس في المقطع الذي صُوّر في مقر إقامته الرسمي في المرصد البحري، مرتدياً بزّة داكنة وربطة عنق حمراء، وهو يفتح الباب أمام الأطفال، قائلاً مبتسماً: «عيد هالوين سعيد يا أطفال... تذكروا أن تقولوا شكراً». قبل أن يبدأ بالدوران تحت أضواء بنفسجية على أنغام موسيقى مسلسل «منطقة الغسق».
الفيديو حصد 14 مليون مشاهدة خلال ساعات قليلة، وهو رقم استثنائي لمنشور سياسي، كما جذب آلاف التعليقات على منصات «إنستغرام» و«إكس» و«فيسبوك».
تعود فكرة النكتة، أو «الميم» كما يقولون في لغة «السوشيال ميديا»، إلى فبراير (شباط) الماضي، عقب مواجهة متوترة بين فانس والرئيس الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض، وقال دي فانس عبارة توبيخية للأوكراني: «لم تقل شكراً للرئيس». وحينها حرّر منتقدون صورة له وأضفوا عليها ملامح مبالغاً فيها وشعراً كثيفاً مجعداً، وأرفقوها بتعليقات مثل: «لم تقل من فضلك»، أو «لم تقل شكراً».
بعض نُقّاد دي فانس أبدوا إعجابهم بقدرة الرجل على إدارة المسألة بذكاء. لكن هل يمكن استنساخ هذا السلوك في عالمنا العربي، أم أن «دَمّنا حامي»!؟ واللي «يرشّنا بالميّة نرشّهُ بالدم»؟!
القصة كلها ليست سوى ألعاب كرّ وفرّ في عالم بناء الصورة، وخلق الانطباعات، وقطف اللحظة، وعدم معاندة الزمن، والذكاء في اللعب على الأمواج العاتية، من خلال الابتعاد عنها، إذا كنت أقلّ شجاعة وفطنة، أو امتطاء الموج برشاقة، إذا كنتَ أذكى وأشجع، أما مواجهة الموج العاتي بوجه عارٍ فليست سوى دلالة على الرعونة.