الأزمة فرنسية فقط أم أوروبية

الأزمة فرنسية فقط أم أوروبية؟

المغرب اليوم -

الأزمة فرنسية فقط أم أوروبية

إميل أمين
بقلم : إميل أمين

ألقت الأحداث المؤسفة التي جرت بها المقادير في فرنسا، في الأيام القليلة الفائتة، بعلامة استفهام، حول ما إذا كان العطب مقتصراً على فرنسا فحسب، أم أنه يمتد إلى بقية دول القارة الأوروبية، التي يبدو أنها تعاني من أزمات عميقة، في عالم يمر بفترات مفصلية من الهدم والبناء.

في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تحدث المسؤول الأول عن الشؤون الخارجية والتعاون الأمني في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، خلال افتتاح الأكاديمية الأوروبية الجديدة في بلجيكا عن «أوروبا حديقة العالم... والبقية القادمة من حيث الأدغال والغابات».

بدا الحديث وقتها ضرباً من الفوقية المركزية الأوروبية التي لا تليق بقارة صدَّرت للعالم في النصف الأول من القرن الماضي، نماذج من الشموليات القاتلة، لا سيما النازية والفاشية.

بدا بوريل كأنه يهرب من مصير الاتحاد الأوروبي، ذاك الذي أضحى قريباً جداً من التفكك، بعد تطلعات لوحدة تدعمها أزمنة ازدهار اقتصادي، قبل أن تُستبدل بها اضطرابات اقتصادية ومالية ستؤدي إلى مزيد من الحمائية والقومية الاقتصادية.

وبقدر ما تركت الأعوام الماضية، لا سيما جائحة كورونا، كثيراً من الأثر السلبي على مستقبل القارة العجوز اقتصادياً، بمقدار ما جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية لتفضح خطوط الصدع العميقة الموجودة بين مختلف الدول الأوروبية، وبخاصة بعد أن خسرت أوروبا الموحدة، طموحها لجهة نشوء وارتقاء الفكرة الأوراسية، ومد جسور التعاون مع روسيا، عوضاً عن الدخول معها في مواجهة أفقدت الأوروبيين الكثير من توازناتهم الداخلية، وغيّرت الكثير من استراتيجيات التنمية المستدامة، لتعود سماوات العسكرة وتُستعلن فوق الأراضي التي عرفت تكاليف حربين عالميتين في القرن المنصرم.

علّق فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، بفائضٍ من السخرية، على موقف الاتحاد الأوروبي من معاداة روسيا ودعم نظام زيلينسكي، وما خلفه ذلك من أزمة طاقة، انعكست بشكل سلبي على بقية دول الاتحاد، وأدت إلى المزيد من الإحباط الداخلي، لدى الفئات المستضعفة والهشة، خصوصاً المهاجرين شبه المنبوذين من البرجوازية الأوروبية، التي تتبع بوريل، قائلاً: «نحن مجرد أقزام والروس عمالقة، ولهذا فإنه حين يقوم قزم بمعاقبة عملاق، يجب ألا نندهش، لا سيما حين يموت القزم».

لا تبدو الحديقة الأوروبية في انتظار مستقبل ديمغرافي واعد، بل يبدو سيف ديموقليس السكاني مسلطاً على رقابها، وذلك من جراء تناقص عدد السكان، ورفض شبابها فكرة قيود الزواج، والاكتفاء بمبدأ المساكنة، إلا النفر القليل، الأمر الذي أصابها في مقتل ديمغرافي، وعليه فإن غالبية المراقبين يتوقعون أن يضع التراجع السكاني مستوى التنمية الاقتصادية في أوروبا في مأزق حقيقي.

شهدت أوروبا في الفترة من 2008 إلى 2018، ما يمكن أن نطلق عليها «العشرية الضائعة ديموغرافياً»، ولا يتوقع أن تكون من 2018 إلى 2028 أفضل حالاً.

خذْ إليك على سبيل المثال لا الحصر، دولة مثل فنلندا، ففي عام 2016 بلغ عدد الوفيات 53 ألفاً، فيما أرقام المواليد سجلت 52 ألفاً.

هنا يرى رجل الاقتصاد الفنلندي الشهير، تيمو هرفونين، أن ما جرى يذكّر وبشكل صادم كيف أن أوروبا تتحول إلى حديقة عجوز، وبأن المعضلة الديمغرافية ستلقي بكامل ثقلها على الاقتصاد الأوروبي في العقود القادمة.

في هذا السياق العام، يمكن للمرء أن ينظر إلى ما يجري في فرنسا، بوصفه امتداداً بشكل أو آخر لأزمات أوروبا الاقتصادية والمجتمعية، مع الأخذ في الاعتبار التبعات والاستحقاقات الخاصة بفرنسا، وتاريخها في محيط البحر الأبيض المتوسط، ذلك الإرث الذي يبدو كأنه أسطورة سيزيفية، لا تتوقف ولا تنتهي.

هل كان لفرنسا نصيب من أزمات أوروبا الأكثر اتساعاً، لا سيما في السنوات الأخيرة؟

ذلك كذلك، رغم أنها أنفقت، كما هو الحال في البلدان الكبرى كافة، ذات الصبغة الرأسمالية، مبالغ ضخمة لتجنب أزمات كبرى في أثناء الجائحة، وجاء الوقت الذي يتساءل فيه الجميع عمّن سيدفع الثمن، وبدا من الواضح أن الطبقة العاملة الفرنسية، هي من ستعلَّق في رقبتها فاتورة التكاليف الكبيرة.

هذا التوجه الاقتصادي يعمِّق الصراع السياسي، يوماً تلو الآخر، لتضحى فرنسا كأنها في لعبة شد حبل استقطابي، إن جاز التعبير، بين اليسار الذي يمثله ميلونشون، واليمين الذي ترفع رايته لوبين، فيما يسار الوسط الذي ينتمي إليه ماكرون يضعف بصورة واضحة، وليس أدل على ذلك من قدرته على مواجهة حركة السترات الصفر بعد عام من تولي منصبه، فيما اليوم وفي القلب من أحداث العنف الكارثية التي شهدتها البلاد، والتي لا يعرف أحد متى يمكن أن تتوقف، يظهر ماكرون أضعف بصورة واضحة مما كان عليه سابقاً.

لا يمكن لأحد أن يبرر العنف الخطير الذي لم تشهده فرنسا منذ عام 2005، وربما تقصر وسائل الإعلام اليسارية الفرنسية في تغطية الخراب الذي لحق بجميع المدن والقرى الفرنسية، الأمر الذي حدا بأحد كبار مسؤولي الشرطة الفرنسية للتصريح بالقول: «سيتراجع العنف قريباً، لأنه لم تعد هناك أشياء تستحقّ السرقة بعد»، ولا يمكن رده إلى تصفية حسابات مع المستعمر الفرنسي القديم.

غير أنه من المؤكد أن هناك خللاً بنيوياً في التركيبة السياسية الفرنسية الداخلية، فقد ظهرت حالة من الاضطراب المتزايد خلال الانتخابات البرلمانية، بعد بضعة أشهر فقط، حيث فشل ماكرون في الفوز بأغلبية مطلقة في البرلمان، والنتيجة هي حكومة ضعيفة قائمة على برلمان منقسم، وتحت ضغط هائل لتنفيذ البرنامج الذي تطلبه الطبقة الرأسمالية الفرنسية.

كارثية ما يحدث في فرنسا اليوم، أنه يفتح الباب لحكم اليمين الفرنسي، لا سيما أن هناك عبارات تراثية بدأت تطفو على سطح الأحداث، ويمكنها أن تهدد السلم العالمي، عبر عودة صراع الدوغمائيات، عوضاً عن تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات المختلفة، عبارات من نوعية «البربر الجدد الذين نؤويهم»، والدعوة «لإيقاظ شارل مارتل» رجل معركة «بواتييه» من رقاده.

الخلاصة... قال زيفتان تودوروف، الفيلسوف الفرنسي، البلغاري الأصل، ذات مرة: «لا يمكنك أن تحتل وتنجو ببراءة».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأزمة فرنسية فقط أم أوروبية الأزمة فرنسية فقط أم أوروبية



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أمينة خليل تتألق في الأبيض بإطلالات عصرية ولمسات أنثوية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 14:41 2023 السبت ,22 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4.5 درجة في اليونان

GMT 07:39 2019 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"الغجر يحبُّون أيضًا" رواية جديدة لـ"الأعرج"

GMT 15:40 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

كيفية اختيار لون المناكير المناسب

GMT 23:58 2018 الجمعة ,14 كانون الأول / ديسمبر

ساني يهزم نيمار في سباق رجل جولة دوري أبطال أوروبا

GMT 19:43 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

البدواوي يكشف أن "حتا" شهدت إقبالاً كبيراً من السياح

GMT 14:00 2018 الجمعة ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

نادي "إشبيلية" يرغب في التعاقد مع ماركوس يورينتي

GMT 00:51 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

التلفزيون الملون لم يدخل بيوت الآلاف في بريطانيا

GMT 00:29 2018 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

صفية العمري تؤكّد أنها تبحث عن الأعمال الفنية الجيدة فقط
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib