التفكير في النظام الإقليمي العربي

التفكير في النظام الإقليمي العربي

المغرب اليوم -

التفكير في النظام الإقليمي العربي

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

العالم ممتلئ بالكثير من أحاديث التغيير والانقلاب رأساً على عقب، والذي يظهر بعده نظم دولية وعالمية «جديدة». الأمر هكذا ليس جديداً في حد ذاته، فكلما حل بالكوكب ملمة أو مصيبة، وباء أو حرب، فإن هذه الحالة تنتاب المفكرين والمحللين، أما الساسة فإنهم يتأملون ما سوف تأتي به الأيام من وقائع وحقائق يصبح عليهم الائتلاف معها أو معارضتها أو تجاهلها كلية. وما يحدث على المستوى الكوني يجد له صدى في عالمنا العربي، حيث يوجد الشغف أن أمراً ما جديداً سوف يجدّ، والمرجح أنه سوف يُنزل بالعرب شراً، ونادراً ما نجد اجتهاداً يطرح علينا ماذا يريد أهل منطقتنا أن يكون عليه الكون، وماذا يكون عليه حالنا؟
الغريب أنه قبل عقود كانت هناك اجتهادات شتى، أولها الذي لم ينظر إلى «العرب» باعتبارهم دولاً، وإنما باعتبارهم «أمة» حدث في غفلة من التاريخ أن انقسمت. ولكن ذلك الذي كان ذائعاً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي سرعان ما ظهرت معقوليته الضعيفة، وظهر التيار الذي اعترف بالحقيقة الدولية للأمة المجزأة إلى دول وأقطار، ومن ثم انصرف الفكر في كتاب مهم «النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية» لمؤلفيه د. علي الدين هلال وأ. جميل مطر، وصدر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»، ولأهميته في السوق الفكرية العربية صدرت منه خمس طبعات.
الكتاب جاء اجتهاداً عاش في فترة تغيرت فيها الدول العربية من دول ناشئة الاستقلال إلى دول أكثر رسوخاً في كينونتها الدولية، وجاء النفط وثروته بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) متدفقاً لكي يفيد الجميع منتجين ومستهلكين. الحرب فتحت الأبواب للسلام مع إسرائيل، ومن بعده ارتفعت الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو العراق للكويت، وما بين السلام والوئام في تسعينات القرن الماضي تولّد ما سوف يصير بعد عقدين ما سمي «الربيع العربي». الكتاب الذي ظل على وهجه مثل مرحلة انتقالية هدفها التمييز ما بين «النظام الإقليمي العربي» وما ذاع وقتها عن «النظام الإقليمي الشرق أوسطي»، والمرحلة الحالية التي لعلها تحتاج إلى تفكير آخر، يقوم على ما تجمّع من حقائق ظهرت في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ثلاثٌ منها تستحق الذكر، الأولى أنه لا توجد دولة عربية قدمت معجزة من أي نوع خلال العصر الحديث، فلم توجد داخل العالم العربي لا يابان، ولا كوريا الجنوبية، ولا أيٌّ من النمور أو الفهود الدولية التي نعرفها. الدولة العربية الوحيدة التي اقتربت من هذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة التي خلقت من نموذج دبي تجربة نجحت في الاقتراب من نموذج سنغافورة، وأن تصبح محط أنظار دول أخرى قريبة وصغيرة مثل قطر تحاول الاقتراب منها. والثانية أن الغالبية العظمي من الدول العربية صارت بعد الاستقلال دولاً ريعية تعتمد على ريع منتج واحد هو النفط والغاز، أو، مثل مصر تعتمد على حزمة صغيرة من المنتجات مثل النفط والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج وقناة السويس، وبعض من الصناعة والزراعة. والثالثة أن ما كان يسمى دول «الجوار الجغرافي» صار مخترقاً بالمذهب والدبلوماسية والسلاح للدول العربية المجاورة، وأضيف إلى هذا الاختراق حتى بداية العقد الثالث «الإرهاب» و«الجائحة» و«الحرب الأوكرانية».
أيّاً ما كان حادثاً في الماضي ونجم عنه من فكر واجتهاد لا ينبغي له أن يرفع التكليف عن الأجيال العربية من المفكرين، للتفكير في الكيفية التي بات على مجموعة دول الإقليم العربي التعامل بها مع العالم المعاصر كما هو، وليس كما نتمناه. وعند هذا المنعطف فإنه من الضروري أن نبقي في الذهن أن هناك فارقاً بين «التاريخ» و«الرؤية» و«الاستراتيجية»؛ الأول هو حالة من ملايين المتغيرات المادية والمعنوية التي لا يملك الإنسان التحكم فيها؛ والثانية هي جهد إنساني لاستشراف المستقبل والسعي للوصول إليه؛ والثالثة هي خطة لاستخدام وسائط بشرية ومادية للوصول إلى أهداف بعينها في ظل حساب للفرص والمخاطر. ولأن التاريخ من العمق بحيث لا يمكن في هذه المساحة الغوص فيه والاستشراف فيه؛ خوف الخلط ما بين الأمل والرجاء والخيال، فإن الاستراتيجية هي من صميم عمل «الدولة» أياً كانت مراحل تطورها التاريخي أو رؤيتها لذاتها وللعالم. الاستراتيجية بحكم التعريف لا بد لها من الاعتماد على حقائق صلدة وملموسة، كلها خرجت من عباءة ما جرى في مطلع العقد الثاني، وما سمي «الربيع العربي».
الربيع المزعوم تمخضت عنه مجموعة من النتائج: الأولى أن الأوضاع القائمة قبله لم يعد ممكناً استمرارها بعد أن استنفدت أغراضها ووصلت أهدافها إلى طرق مسدودة.
والثانية أن الربيع العربي أدى إلى العديد من الدول الفاشلة - العراق وسوريا واليمن وليبيا وقبلها السودان والصومال وأفغانستان - والحروب الأهلية التي نجم عنها مئات الألوف من القتلى وملايين من الجرحى و14 مليوناً من اللاجئين والنازحين.
والثالثة: تولّد عن الربيع العربي حالة ثورية لفاشية متطرفة تهز المنطقة والعالم، وتعرض الدين الإسلامي للخطر. والرابعة: ضاعف من تأثير هذه الحالة الثورية الانسحاب الأميركي من المنطقة، مضافاً إليه محاولات إيران وتركيا استغلال الفراغ السياسي والاستراتيجي الناجم عنها خاصة مع سقوط سوريا والعراق. والخامسة: لمواجهة هذه الحالة «الثورية» كان لا بد من استجابة تأخذ طريقين: تغيير موازين القوى في المنطقة، ومواجهة الحالة الثورية بالقوة المسلحة إذا لزم الأمر، والآخر الإصلاح.
من الضروري هنا التنبيه إلى أن هناك نوعين من الإصلاح مطروحان في المنطقة: الإصلاح المعادي أو Hostile Reform أو الإصلاح الصديق Friendly Reform. الأول يأتي من الخارج ومن الغرب تحديداً، ويقوم على الإصلاح السياسي أولاً مع التأكيد على حقوق الإنسان، ويستهدف إسقاط النظم السياسية القائمة (ونتيجته إسقاط الدول القائمة) عن طريق ديمقراطية بها الكثير من العوار (النموذج العراقي). والثاني من داخل الدول العربية لإصلاح العوار الذائع في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في محاولة هادئة للمصالحة مع العصر. في هذا الطريق الأخير جرت التطورات في عدد من الدول العربية التي استند بعضها إلى المرجعية الأوروبية، وبعد أن كان والي مصر الخديوي إسماعيل قد جعل من أهدافه أن تكون مصر جزءاً من أوروبا، فإن الواقع الحالي بات أكثر شجاعة وتصميماً على لسان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عندما باتت المنطقة الإصلاحية ممثلة للتجربة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين.
ومن دون الكثير من الذكر فإن «التجربة الآسيوية» تركت بصماتها على مرجعية أخرى تقوم على الأمثلة الصينية والكورية (الجنوبية) والسنغافورية. وسواء كان الأمر هنا أو هناك فإن مجموعة من الدول العربية بدأت بتجسيد الدولة الوطنية، واختراق الإطار الإقليمي للدولة، وتطوير القيم الاجتماعية والاقتصادية للتلاؤم مع تجارب العالم المتقدم وكفى. هل يمكن أن يقوم على أكتاف هذه المجموعة نظام عربي إقليمي «جديد»؟ تلك هي المسألة. وما الفرص؟ وما التحديات؟!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التفكير في النظام الإقليمي العربي التفكير في النظام الإقليمي العربي



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 12:24 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحمل السبت26-9-2020

GMT 07:07 2020 الإثنين ,02 آذار/ مارس

شائعة تبعد "مقالب رامز" عن بركان في الفلبين

GMT 19:46 2019 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

البرلمان المغربي يصادق على مشروع قانون المالية لسنة 2020

GMT 12:54 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على مواصفات برج القوس ووضعه في حركة الكواكب

GMT 11:02 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

غاريدو يحمل فتحي جمال مسؤولية مغادرته للرجاء

GMT 00:38 2019 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

سيدة ميتة دماغيًا منذ أربعة أشهر تنجب طفلة سليمة

GMT 00:01 2019 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

فان دايك يتوج بجائزة أفضل لاعب في إنجلترا

GMT 00:16 2019 الأحد ,07 إبريل / نيسان

أمل الفتح يتوج بطلا ويحقق الصعود

GMT 01:30 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

بيع أوّل نسخة في العالم من "تويوتا سوبرا GR"

GMT 01:30 2019 الإثنين ,21 كانون الثاني / يناير

تعرفي على أفكار لحديقة الزهور ولمسة من الجمال

GMT 10:18 2018 الخميس ,13 كانون الأول / ديسمبر

تفاصيل حياة الدوقة كيت ميدلتون قبل زواجها من الأمير هاري

GMT 01:36 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

وفاء عامر تبدي ألمها بإصابة فاروق الفيشاوي بالسرطان

GMT 07:55 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

الأثاث البني موضة لن تنتهي في عالم الديكور

GMT 20:54 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

قائمة افضل لاعب في العالم بدون جريزمان
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib