بقلم - سليمان جودة
معروف عن عباس العقاد أنه مثل نجيب محفوظ لم يسافر كثيرًا فى حياته، فكلاهما لم يكن يحب السفر، وكلاهما سافر بالكاد مرة أو مرتين!.
وفى صيف ١٩٤٥ سافر العقاد إلى فلسطين. كان ذلك أيام أن كانت هذه المساحة التى نعرفها على الخريطة بحدودها الأربعة مقصورة على فلسطين. لم يكن هناك كيان آخر ينازع فلسطين خريطتها، ولا كان فى الدنيا شىء إسمه إسرائيل!.. إن لك أن تتصور أن هذا الكيان الذى يقتل الفلسطينيين ويُربك العالم لم يكن له أى وجود فى ١٩٤٥!.
سافر العقاد إلى هناك والتقى الفلسطينيين، ومعهم التقى صهاينة كانوا قد سارعوا بالذهاب إلى «أرض الميعاد».. فهكذا كان اليهود وقتها يسمون أرض فلسطين!.. وعندما عاد العقاد كتب فصلًا كاملًا عن زيارته فى كتاب سيرته الذاتية: حياة قلم.
يقارن فيما كتبه بين يافا من ناحية، وبين تل أبيب من الناحية الأخرى، ويقول إن ما رآه من ملامح الصراع بينهما هو أعنف صراع سمع به أو شاهده بين مدينتين.. فإحداهما وهى يافا لها من العُمر ما يزيد على ثلاثين قرنًا من الزمان، وميناؤها على البحر المتوسط هو الأقدم بين موانئ البحار، بينما تل أبيب لم يكن عمرها يزيد وقت الزيارة على ٢٢ سنة!.. ومع ذلك كانت تصارع يافا وتسعى إلى أن تسبقها وتتفوق عليها.
مما قاله أن المدينتين متجاورتان إلى الدرجة التى يمكن أن يحسبهما الزائر مدينة واحدة، ومن علامات ذلك أنه من الممكن أن يبدأ شارع من يافا وينتهى فى تل أبيب. يصف يافا بأنها: شيخة صبور. أما تل أبيب فهى: فتاة ماكرة لعوب!.. وليس سرًا أن يافا الفلسطينية عاشت تشتهر بالكثير مما تزرعه وتصنعه، وقد اشتهرت بزراعة البرتقال وصناعة الصابون.
سوف يعجبك أن يتوقف العقاد عند حكاية «أرض المعاد» وأن يرى أن معناها لدى اليهودى الذى صدّق مغريات الهجرة إليها من موطنه الأصلى، لا يتسق مع فكرة أرض الميعاد إذا قسنا المعنى على ما يتشابه معه لدى المسلمين والمسيحيين.. فالمسلم يحج إلى عرفات ثم لا يلبث حتى يعود إلى بلده الأم، والمسيحى يحج إلى كنيسة القيامة ثم لا يستطيع الغياب عن وطنه الذى جاء منه فيعود إليه.. إلا اليهودى القادم للحج إلى أرض الميعاد فى فلسطين، أو الذى قال إنه قادم لهذا الغرض، فإنه يستنبت نفسه فى أرض غير أرضه وفى وطن غير وطنه!.
ومن شأن النبات الذى يجرى استنباته فى غير أرضه ألا يعيش، فهكذا يقول خبراء الأرض والزراعة، وهكذا تقول أيضًا طبائع الأمور.