وحشية ما بعد الحداثة
أخر الأخبار

وحشية ما بعد الحداثة؟

المغرب اليوم -

وحشية ما بعد الحداثة

مأمون فندي
بقلم : مأمون فندي

حفزني مقال مهم للأستاذ حازم صاغية في هذه الصحيفة بعنوان «ما بعد الحداثة... ما قبل ماذا؟»، الذي انتهى فيه إلى القول: «وربّما جاز القول إنّ ما بعد الحداثة واحدة من ظاهرات ما قبل الكوارث الشعبويّة التي تتفجّر بربريّتها اليوم». وسأحاول في هذا المقال أن أشتبك مع هذه النتيجة التي وصل إليها الأستاذ صاغية، والتي أرى أنها مجحفة إلى حد كبير.
بداية لا أختلف كثيراً مع ملخص ما ذكره الأستاذ صاغية حول نقاط القطيعة والاختلاف بين الحداثة وما بعد الحداثة من حيث الأسس الفلسفية والبدايات والنهايات، ولكن الحوار حول هذه المفاهيم الغربية تصعب أحياناً الكتابة عنه بلغة أخرى، واللغة العربية واحدة منها، وهنا أضرب مثلاً بـ«الهايفن» (The hyphen)؛ تلك الفاصلة أو الشرطة التي تشبك الحداثة في ما بعد الحداثة (post - modern)، هذه الفاصلة غير موجودة في «ما بعد الحداثة» بالعربية إلا إذا كتبناها «بعد - الحداثة»، وفي التنظير حول ما بعد الحداثة كان سؤال «العافين» أساسياً فالـ«post» في الـ«post – modern» ليست هي ذات الـ«post» في الـ«post office»، وهل هذه الشرطة أو «الهايفن» هي كوبري ورابط بين ما بعد الحداثة والحداثة، أم أنها فاصل وتفرقة وقطيعة؟
الحداثة كظاهرة في الأدب والعمارة والفلسفة والعلوم الطبيعية ظهرت نتيجة لرؤى أساسية شكلت سيادة الإنسان والعقل قادمة من معارف مختلفة، فمثلاً شكلت رؤية كل من فرويد ويونغ في علم النفس، وكذلك نظرية النسبية عند آينشتاين، فرغم أن بدايات الحداثة، كما ذكر صاغية، تعود إلى القرن التاسع عشر، وربما ما قبل ذلك حتى منتصف القرن العشرين، إلا أن فيزياء آينشتاين كانت جوهرية في رسم الأسس المعرفية للحداثة ورؤية الإنسان للحقيقة. آينشتاين كان مغرماً بفلسفة العلم والتأثير الذي تتركه النظريات العلمية على الفلسفة والعالم، وكانت فكرته هي أن العالم الطبيعي يمكن فهمه من خلال تحليل القوانين الرياضية التي تحكمه، والذي أوصلنا إلى النظرية النسبية الخاصة والعامة بحثاً عن فهم يوصلنا إلى حالة الاستقرار أو «الميتا ناراتيف» أو السرديات الكبرى التي تفسر العالم، ولكن حقيقة عالم آينشتاين الحداثي تحطمت أمام أبحاث «فيزياء الكوانتم»، فإذا كانت هناك حقيقة موضوعية عند آينشتاين، فهذه الموضوعية غير موجودة في «الكوانتم ميكانيكس» أو «ميكانيكا الكوانتم». إذ ترى «ميكانيكا الكوانتم» أن تصرف الجسيمات الدقيقة يصعب التنبؤ به، وهي أيضاً لا توجد بشكل موضوعي إلا في غياب المشاهد، أي أن هناك علاقة بين العين التي ترى والجسيمات الدقيقة التي تشكل سلوكها، إذن الحقيقة ذاتية وليست موضوعية.
ذكر الأستاذ صاغية أعمال أساتذة في الفلسفة أو في فلسفة اللغة مثل جان بودريارد وكتابه «samalcra and simulation»، أو جون فرنسوا ليوتارد وكتابه «post modern condition»، أو «الحالة ما بعد الحداثية»، التي ترجمها صاغية «شرط ما بعد الحداثة»، وأنا متأكد من أن الأستاذ صاغية أيضاً ملم بتأثيرات كل من جاك دريدا وميشيل فوكو كجزء من مدرسة الفلسفة الفرنسية التي ركز عليها في مقاله.
المهم في طرح الأستاذ صاغية هو نتيجة لموت السرديات الكبرى وموت فكرة الموضوعية هو الذي أوصلنا إلى حالة التقطيع و«الهايبر ريالتي»، أو الواقع المتفكك الذي نعيشه، والذي أشار إليه بحالة من الشعبوية التي أنتجتها الحالة ما بعد الحداثية، والتي تغيب فيها المعايير، ويصبح رأيك مثل رأيي، أو كما تقول بالعامية المصرية «أبو قرش زي أبو قرشين»، لا فرق بين رأي عالم ملم وبين رأي مؤثر في السوشيال ميديا.
...هنا نختلف.
كانت فيرجينا واحدة من رواد الحداثة، وكانت تعاني من الاكتئاب والانطواء، وماتت ضحية لفلسفة فرويد في معالجة الأمراض النفسية، لكنها لو تعرفت على الليثيوم مادةً كيماويةً معالجةً للخلل الدماغي التي كانت تعاني منه لربما شفيت أو عانت أقل، ولكنها كانت متوقفة عند فلسفة عصرها وعلوم عصرها، فالعلم دوماً متطور وتطبيقاته متطورة، فهذا الذي نراه مؤثراً، الإعلام الجديد أو السوشيال، سيموت حتماً ضحية لتطور الذكاء الصناعي (AI)، ولن تستمر سيطرة الإنسان على «الهايبر ريالتي» أو «عالم تقليد التقليد»، وننتقل من مركزية الإنسان الحداثية وشخصنة الواقع فيما بعد الحداثة إلى مركزية الآلة، والعودة إلى موضوعيات أكثر صرامة قد تعود بنا إلى الأسس الفلسفية الأولى للحداثة من كانت إلى هيجيل وغيرهما.
إن اللحظة التي نحياها ليست القول الفصل في فلسفة ما بعد الحداثة، لكننا داخل العملية (the process) ما بعد الحداثية، وهذا النسق قد يطور من نفسه. إن المشكلة التي نعاني منها اليوم هي تلك الفجوة ما بين تصورنا الفلسفي للعالم، وكيف ينفرط العالم أمامنا، إن الإحباط الناتج عن الفجوة بين عملية النمذجة (modeling) التي نرسمها في عقولنا مقابل الواقع كنموذج هو الذي يؤدي إلى حالة القلق والإحباط والخوف مما نراه شعبوية، ولكن فجوة النمذجة ستضيق كثيراً، وربما تختفي في حالة الذكاء الصناعي، وهو جزء من لحظة ما بعد الحداثة، ومعها يختفي الإحباط الإنساني ونرى الهمجية والقبح بوضوح تام، وفي المقابل نرى الحضارة والجمال بالوضوح ذاته. ويجوز القول هنا إنني لست متشائماً، كما الأستاذ صاغية، من لحظة ما بعد الحداثة ونتائجها إذن؛ كانت قنبلة هيروشيما ونجازاكي وكذلك هتلر جزءاً لا يتجزأ من الحداثة، والآن نحن في زمن أحداث صغرى متقطعة لها تأثير كبير على الوعي والضمير الإنساني حتى لو كانت الحقيقة ذاتية وشخصية إلى حد التشظي وحالة «الكوانتم».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وحشية ما بعد الحداثة وحشية ما بعد الحداثة



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة
المغرب اليوم - تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة

GMT 02:56 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع
المغرب اليوم - دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع

GMT 02:06 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع
المغرب اليوم - الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع

GMT 02:03 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منى أحمد تكشف أن لكل برج ما يناسبه من الأحجار الكريمة

GMT 14:24 2016 الإثنين ,06 حزيران / يونيو

"السياسة العقارية في المغرب " ندوة وطنية في طنجة

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 05:10 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة السوق المالية السعودية تقر لائحة الاندماج المحدثة

GMT 07:31 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

طرح علاج جديد للوقاية من سرطان الثدي للنساء فوق الـ50 عامًا

GMT 23:39 2012 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر: تزويد المدارس بالإنترنت فائق السرعة العام المقبل

GMT 08:26 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا قدمتم لتصبحوا صحفيين وناشطين؟

GMT 00:26 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة المنشط الإذاعي نور الدين كرم إثر أزمة قلبية

GMT 02:33 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

"رينود" يتسبب في تشنج الأوعية الدموية لأصابع اليدين

GMT 00:25 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

مي عمر تؤكّد أهمية تجربة عملها مع عادل إمام

GMT 09:51 2016 السبت ,10 كانون الأول / ديسمبر

بشرى شاكر تشارك في مشروع طاقي في ابن جرير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib