لا يطمئن السوريّين إلّا وطنيّتهم السوريّة

لا يطمئن السوريّين إلّا... وطنيّتهم السوريّة

المغرب اليوم -

لا يطمئن السوريّين إلّا وطنيّتهم السوريّة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

قضت ظروف تاريخيّة، لا يتّسع المجال هنا لعدّها، بكبت الوطنيّة السوريّة ووضعها بين مزدوجين. فسوريّا، «قلب العروبة النابض»، غدت في اللغة البعثيّة الشهيرة «قُطراً». وكان هذا الدمج لـ»الأكثر» و»الأقلّ» كاشفاً في ما يخصّ مصاعب البناء الوطنيّ.

والحال أنّ ما فعله البعثيّون والأسديّون على نطاق موسّع، وُجدت مقدّمات له في تاريخ سابق عليهم جسّدها عديد الأحداث والتطوّرات.

وفي الخلفيّة أنّ منطقة المشرق، على عمومها، صنعت وجهةً واستقبلت وجهةً، وكانت الوجهتان المتلاحقتان مدمّرتين: الأوّلى، الانتقال، بقيادة الراديكاليّين والضبّاط، من عروبة ثقافيّة تُحبّب بالوطن ضدّاً على الوحدة العثمانيّة، إلى عروبة سياسيّة ونضاليّة تُكرّه بالأوطان بوصفها صنيعة سايكس بيكو. والثانية مدّتنا بها الحرب الباردة التي عمّمت فكرة مفادها أنّ الوطنيّة تقتصر على «مناهضة الإمبرياليّة» والاصطفاف وراء الاتّحاد السوفياتيّ.

ورغم محاولات قليلة لبلورة وطنيّة سوريّة، أقدم عليها بعض الأعيان البرلمانيّين في سنوات حكمهم القليلة، ظلّ نزع السوريّة عن سوريّا هو السائد.

فحينما أحسّ «انفصاليّو» 1961 بالحرج من جرّاء إنجازهم الاستقلال عن «دولة الوحدة»، بات اسم جمهوريّتهم «عربيّة سوريّة»، فكأنّهم جعلوا «السوريّة» تستتر بـ»العربيّة».

قبلذاك قُدّم النضال الاستقلاليّ ضدّ الفرنسيّين بوصفه هدفاً قوميّاً للعروبة قبل أن يكون هدفاً وطنيّاً لسوريّا. أمّا النشيد الوطنيّ الذي صوّر البلد بوصفه «عرين العروبة»، فاحتفل بـ»الوليد» (خالد) وبـ»الرشيد» (هارون)، ولم يذكر رمزاً تاريخيّاً واحداً وُلد في المساحة الجغرافيّة التي باتت تُعرف بسوريّا الحديثة. وفي 1946، مع الجلاء، أعلن شكري القوتلي، رئيس الجمهوريّة يومذاك، أنّه ينحني لعلم بلده في انتظار اليوم الذي ينحني فيه لعلم الدولة العربيّة الموعودة. هكذا اقترنت مناسبة الولادة بإعلان أنّ المولود مؤقّت وزائل، وهذا غير مألوف في أعياد الميلاد. لكنْ في الخمسينات، عندما استضعف السوريّون أنفسهم، واستضعفهم سواهم، وغدت بلادهم ساحة لصراع مصريّ – عراقيّ، كان الحلّ، غير المسبوق تاريخيّاً، إقدام الضبّاط على إهداء سوريّا إلى مصر الناصريّة وإقامة «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة».

ما أضافه البعثيّون والأسديّون إلى تلك المقدّمات كثير وبالغ الضرر. فعلى أيديهم صارت سوريّا محض وظيفة استراتيجيّة، لا تُحكم داخليّاً إلاّ بالقمع، ولا تُدار علاقتها مع جوارها إلاّ بالعدوانيّة. وإذ جُعلت الدولة أداة قهر ومصفاة تمييز، استفحلت قوّة الانتماءات الأهليّة التي تكفّلت، هي الأخرى، بامتصاص ذاك القليل المتوفّر من الوطنيّة السوريّة. ثمّ منذ الثمانينات، مع تحوّل الإسلاميّين الطرف المعارضَ الأبرز للأسديّة، أضيف تغييب سوريّا في «أمّة الإسلام» الوهميّة إلى تغييبها الأقدم عهداً في «أمّة العرب» الأشدّ وهميّة.

والأمر قد يكون سببيّاً وقد لا يكون، لكنّ إضعاف الوطنيّة السوريّة تلازم، أقلّه منذ وحدة 1958 ثمّ نظام البعث، مع عقيدة قويّة بلغت ذروة قوّتها إبّان 1966 - 1970، وهذا قبل أن يحكم البلد، ابتداءً بـ1970، زعيم قويّ هو حافظ الأسد.

أمّا النجل بشّار، بشخصه وسلوكه ودمويّته، فكان الثمرة العجفاء الأهمّ لمسار تغييب الوطنيّة السوريّة، ولحجب السوريّين تالياً. فضدّاً على العهود السابقة في 1958 – 1961، ثمّ منذ 1963، وتتويجاً لمسارها الانحطاطيّ المديد، فرغت الجعبة تماماً من العقائد القويّة ومن الزعماء الأقوياء، وبات ضعف الوطنيّة التقليديّ يمثُل عارياً بلا إسناد أو حجّة أو تعويض. وربّما كان في هذه النهاية الصِفريّة التي جسّدها بشّار ما يفسّر بعض أسباب سقوط عالمه المجوّف. أمّا باقي الثمار العجفاء التي اقترنت به فكان منها خضوع البلد لاحتلالات عدّة، وتحوّل سجونه إلى مسالخ ومقابر جماعيّة وتغييب لعشرات آلاف السكّان، وهبوط 90 في المئة من السوريّين إلى ما دون خطّ الفقر، والتردّي المريع في علاقة سوريّا بـ «الأشقّاء» الذين أريدَ استتباعهم وإخضاعهم، أو أريدَ غزوهم بالكبتاغون. أمّا آيديولوجيا الصمود والمقاومة التي مارسها، بقدر من التفاوت، حكّام سوريّا، فانتهت انهياراً فضائحيّاً للسلطة، وللسيطرة على الأجواء والسواحل، وتدميراً للبنية التحتيّة العسكرية. وتمثّلت الهزيمة الأكبر لـ»ثقافة النظام» في ظهور قطيعة كاملة بين السوريّين وشهيّة الصراع الإقليميّ الذي لم يأت عليهم بغير المآسي.

بمعنى آخر، شكّل الإفلاسُ الشامل الطورَ الثاني من كبت الوطنيّة السوريّة، بعدما ارتبط الطور الأوّل بزعيم أو بعقيدة فاسدين إنّما قويّين.

واليوم قد يجد البعض ما يغريهم في الردّ على الصِفريّة البشّاريّة من خلال زعيم وعقيدة قويّين يكونان نقيض الافتقارين اللذين انطوى عليهما الرئيس الساقط. لكنّ هذا سيكون ردّاً على النتيجة لا على السبب، وعلى لحظة الاهتراء والتداعي لا على كامل السياق الذي انتهى به انحطاطه إلى تلك اللحظة. فالردّ والتجاوز الفعليّان لا يكونان إلاّ بإعادة تأسيس سوريا بوصفها وطناً للسوريّين، يساوي بينهم ويعترف بخصوصيّاتهم، ولا ينتج عقيدة أو زعيماً قويّين كائنين من كانا.

فالوطنيّة السوريّة هي وحدها النقيض المانع لهذين الخطرين، وللخواء على المذهب البشّاريّ الذي يقيم في فصليهما الأخيرين. وهذا ما يطمئن السوريّين وما يستحقّ أن يقود سعيهم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا يطمئن السوريّين إلّا وطنيّتهم السوريّة لا يطمئن السوريّين إلّا وطنيّتهم السوريّة



GMT 15:53 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

خريطة سعدون حمادي

GMT 15:51 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

الدولة والحزب في أصعب الأيام

GMT 15:49 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

مُحيي إسماعيل والتكريم «البايخ»!

GMT 15:47 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

لبنان بين مأزق السلاح والتسوية مع سوريا

GMT 15:45 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

مشروع الرفاهية والاستقرار

GMT 15:43 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

لماذا يقبل الناس على الإعلام الموازى؟!

GMT 15:41 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

حفيدة الباشا

إستوحي إطلالتك الرسمية من أناقة النجمات بأجمل ألوان البدلات الكلاسيكية الراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 20:23 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

عمرو دياب يثير الجدل بما فعله في حفله
المغرب اليوم - عمرو دياب يثير الجدل بما فعله في حفله

GMT 09:34 2025 الأحد ,06 تموز / يوليو

الرجاء يخاطب منخرطيه قبل الجمع العام

GMT 05:15 2018 الأحد ,08 إبريل / نيسان

"قميص الدنيم" لإطلالة أنيقة ومريحة في آن واحد

GMT 07:07 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

ناصر بوريطة يناقش قضايا متعددة مع وزيرة خارجية السويد

GMT 15:36 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تنفرج السماء لتظهر الحلول والتسويات

GMT 20:46 2019 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

اعتقال رجل يقود سيارته برفقة زوجته "المتوفاة"

GMT 21:49 2019 الثلاثاء ,05 آذار/ مارس

وفاة والد خالد بوطيب مهاجم الزمالك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

وجهات مشمسة لقضاء عطلة صيفية في قلب الشتاء

GMT 17:46 2014 السبت ,14 حزيران / يونيو

"سابك" تنتج يوريا تزيد كفاءة محركات الديزل

GMT 11:48 2017 السبت ,18 شباط / فبراير

لن أستحيي أن أضرب مثلا في حبكم .. عجزي ….

GMT 20:50 2017 الأحد ,08 تشرين الأول / أكتوبر

ماركة "LIODADO" التركية تصدر ملابس سبور رائعة

GMT 17:50 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الاختلاف والتميز عنوان ديكور منزل الممثل جون هام

GMT 10:39 2016 الخميس ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

مهبطا المهرجان في الصحراء والمائي من أغرب مطارات العالم

GMT 19:35 2022 السبت ,24 كانون الأول / ديسمبر

سعر نفط برنت يتخطى 84 دولارا للبرميل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib