سوريا والثنائيات الحرجة
أخر الأخبار

سوريا والثنائيات الحرجة

المغرب اليوم -

سوريا والثنائيات الحرجة

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

المعرفة كنزٌ تزداد قيمته حين تسخن الأحداث وتتعقد المشاهد؛ لأنها أكبر معين على اكتناز الماضي خبرةً، وفرز التعقيد بالعلم، وقراءة المشهد بالوعي؛ ما يمكن من رسم التصور، ثم التوصيف، وصولاً إلى التحليل للخروج بأقرب صورةٍ للواقع.

المشهد في سوريا ساخنٌ؛ لأنه يمثل قطب الرحى في التغيير الكبير الذي جرى على مراكز القوى في المنطقة منذ عامٍ ونيفٍ، في غزة ثم في لبنان، وأخيراً وليس آخراً في سوريا، ففي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 جنت «حركة حماس» على نفسها وعلى الشعب الفلسطيني جنايةً تاريخيةً، وقام «حزب الله» اللبناني بعملٍ مشابهٍ حين جرّ على لبنان حرباً لا ناقة له فيها ولا جمل.

«محور المقاومة» دفع ثمناً باهظاً بسبب إدمان أتباعه من تنظيمات الإسلام السياسي سنةً وشيعةً على ارتكاب الحماقات السياسية. طالت الحرب ضد «حزب الله» اللبناني كل الميليشيات الداعمة له في سوريا مثل «فاطميون» و«زينبيون» و«فيلق القدس» و«الحرس الثوري»، فانكشف نظام الأسد انكشافاً عسكرياً كاملاً، فسقط في أيامٍ معدودةٍ.

قبل ثلاثة عقودٍ، وتحديداً في 1995، كنت في دمشق لأول مرةٍ، وسيطرت عليّ دهشتان: الأولى في رؤية «الشام»؛ مهد الحضارات ومنبع الديانات والتاريخ الذي ينطق في كل مكانٍ، والثانية في حجم التخلف والقمع اللذين لا تخطئهما عينٌ؛ بلادٌ ليس فيها «جهاز فاكس» ولا ماكينة «صرّافٍ آليٍّ» واحدة، والفساد صارخٌ في الحكومة والدولة. وبعد عقدٍ من الزمن، وفي 2005 عُدت إلى «الشام» في التحضير لمسلسل «الحور العين»، فلم يتغير عليّ شيءٌ رغم أنه قد مرت 5 سنواتٍ على رحيل «حافظ» وتولي «بشار».

منذ 2011 أصبحت سوريا مسرحاً للتدخلات الدولية: أميركا وروسيا، والإقليمية: إيران وتركيا، ولكلٍّ منها مساحاتٌ جغرافيةٌ، وقواتٌ عسكريةٌ، وميليشياتٌ مدربةٌ، وإرهابٌ منظمٌ. وصارت سوريا رمزاً للصراع السياسي الدولي والإقليمي الساخن، وكانت الفوضى سيدة المشهد والعنف سيد الأحكام، والسلسلة مستمرةٌ اليوم ولم يتغير فيها شيءٌ سوى سقوط «نظام الأسد».

ما زال تاريخ سوريا الحديث مسكوناً بكل عقد الماضي وهوياته القاتلة، كالصراع بين ثنائية «السنة والأقليات» الذي ظلّ كامناً تحت شعاراتٍ سادت ثم بادت؛ فـ«في أواخر الأربعينات كان كل طالبٍ يسأل الآخر: ما دينك؟ وكان الجواب: (قومي سوري) أو (شيوعي) أو (بعثي)» (كتاب باتريك سيل)، ثم عاد الصراع للظهور على السطح بعد سيطرة حافظ الأسد على الحكم باسم «حزب البعث»، ثم الانتقال لحكم الأقلية، وصولاً إلى حكم «العائلة»، وصراع هذه الثنائية قائمٌ لقرونٍ من الزمن.

مع سيطرة «حزب البعث» كان جماعة أخرى لها قوةٌ موازيةٌ هي «جماعة الإخوان المسلمين»، واصطدم الطرفان، وكان «على (البعث) أن يواجه انتفاضةً صغرى أعلنها (الإخوان المسلمون) وناصريون وجماعات أهلية في مدينة حماة. ففي أبريل (نيسان) 1964، انطلق ذاك التمرد من جامع السلطان، وارتكب منظّموه الإسلاميون أعمالاً عنفيّةً وطائفيةً عبّرت عن رفضهم حكم (البعث)، لكنها نمّت عن تعصبهم ونزعتهم الدموية» (كتاب حازم صاغية)، وسقط 100 قتيل، وقد عاد الاصطدام ثانيةً بين الطرفين في نفس المدينة في 1982، وسقط 1000 قتيلٍ. وتحول بعد ذلك صراعاً بين «ديكتاتورية الأقلية» و«ممانعة الأكثرية»، فالنظام لم يستطع التفريق بين الأغلبية السنية من أهل الشام، وبين حركة «الإخوان المسلمين» الأصولية، ثم تطور الصراع بعد 2011 ليصبح بين «توحش الأقليات» المدعوم إقليمياً و«الغضب السُّني»، وهذا الصراع بين ثنائية «البعث والأصولية» قائمٌ لعقودٍ من الزمن.

الثنائية الثالثة هي صراع ثنائيات «النفوذ» بين أميركا وروسيا من جهةٍ، وبين إيران وتركيا من جهةٍ ثانيةٍ، وهو صراعٌ قديمٌ له خلفياتٌ تاريخيةٌ إبّان الحرب الباردة دولياً، وأقدم من ذلك بين «العثمانيين والصفويين» أو «السُّنة والشيعة» إقليمياً، وبين «تركيا وإيران»، وهو صراعٌ يمتد لعقودٍ ولقرونٍ من الزمن.

الآيديولوجيات لا تتغير بين عشيةٍ وضحاها، ولا تنقلب على نفسها جملةً وتفصيلاً، وإلا لسقط منطق التاريخ وسقطت طبيعة الفكر البشري، وهذا محالٌ. وهذا لا ينفي أن ثمة انزياحاً يمكن رصده من «خطاب الإرهاب» إلى «خطاب الأصولية»، وهو خطرٌ كبيرٌ على المنطقة والعالم بأسره؛ لأنه يؤذن بتصعيد صراعٍ قديمٍ متجددٍ في المنطقة حول مَن له حق تمثيل «الإسلام السُّني»، هل هو للإسلام التقليدي عقائدَ وفقهاً وعلوماً شرعيةً أو للإسلام السياسي الأصولي آيديولوجيا ومبادئَ وفكراً وتنظيماً؟

مَن لا يدرك عمق تأثير هذه الثنائيات الحرجة على المشهد الحالي والمستقبل المنظور، فهو عاجزٌ عن تكوين أي رؤيةٍ متماسكةٍ تجاه ما يجري، وبالتالي من السهل أن يغرق في تيه التعقيدات وضبابية التشابكات التي هي جزء من طبيعة الأزمات الكبرى.

أخيراً، فهذا إيجازٌ شديدٌ لمشهدٍ سياسيٍ يتشكل، ويحتاج كتاباتٍ متعددةً وزوايا نظر مختلفة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سوريا والثنائيات الحرجة سوريا والثنائيات الحرجة



GMT 17:42 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

قمامة من؟

GMT 17:39 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

«القاعدة» في اليمن... ليست راقدة!

GMT 17:36 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف اخترق ممداني السَّدين؟

GMT 17:34 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

لحظة ساداتية لبنانية ضد الهلاك

GMT 17:30 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جريمة أستاذ الجامعة

GMT 17:12 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (2)

GMT 17:10 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أخطأ ياسر ولكنه لم ينافق!!

GMT 16:54 2025 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الفتنة الكبرى!

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة
المغرب اليوم - تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة

GMT 02:56 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع
المغرب اليوم - دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع

GMT 02:06 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع
المغرب اليوم - الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع

GMT 02:03 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منى أحمد تكشف أن لكل برج ما يناسبه من الأحجار الكريمة

GMT 14:24 2016 الإثنين ,06 حزيران / يونيو

"السياسة العقارية في المغرب " ندوة وطنية في طنجة

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 05:10 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة السوق المالية السعودية تقر لائحة الاندماج المحدثة

GMT 07:31 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

طرح علاج جديد للوقاية من سرطان الثدي للنساء فوق الـ50 عامًا

GMT 23:39 2012 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر: تزويد المدارس بالإنترنت فائق السرعة العام المقبل

GMT 08:26 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا قدمتم لتصبحوا صحفيين وناشطين؟

GMT 00:26 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة المنشط الإذاعي نور الدين كرم إثر أزمة قلبية

GMT 02:33 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

"رينود" يتسبب في تشنج الأوعية الدموية لأصابع اليدين

GMT 00:25 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

مي عمر تؤكّد أهمية تجربة عملها مع عادل إمام

GMT 09:51 2016 السبت ,10 كانون الأول / ديسمبر

بشرى شاكر تشارك في مشروع طاقي في ابن جرير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib