مع الرميحي الخطابات المتوازية

مع الرميحي... الخطابات المتوازية

المغرب اليوم -

مع الرميحي الخطابات المتوازية

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

كتب الدكتور محمد الرميحي مقالة بالأمس في هذه الصحيفة بعنوان «حتى لا تكون صرخة في وادٍ» تعليقاً على مقالتي الأسبوع الماضي بعنوان «الصحويون: إدمان الخديعة وسذاجة التصديق»، وقد أثرى الرميحي النقاش بأفكارٍ مهمة تفتح الباب لنقاشات أعمق وأكثر تفصيلاً، ممن يمتلك الرؤية والوعي والتخصص في مثل هذه المواضيع الشائكة. ومقالة الدكتور الرميحي جديرة بالمناقشة والتعليق.
لعمق الأثر الذي أحدثته تيارات وجماعات وتنظيمات وخطابات الإسلام السياسي على المجتمعات والدول والعقول والعالم، فإن ترويج نهايتها بشكل سريعٍ وغير مبررٍ ينمّ عن قلة معرفة وتجربة مقرونة باستعجالٍ مخلٍّ يفتقد للأناة والتمحيص والتبصّر، وتطرحه جهتان: إحداهما، هذه الجماعات نفسها، لتقلل به من صرامة المواجهة معها، وتخفف العبء عن أتباعها رموزاً وكوادر، والثانية، بعض المثقفين المخدوعين بهذه الجماعات، أو الذين يتوسلون شهرة لدى أتباعها.
هذه الجماعات ورموزها لديهم دائماً خطابٌ لكل مرحلة، وعقيدة لكل ظرفٍ، وإيمانٌ يتغير بحسب المعطيات ويتقلب بتقلباتها، والأمثلة كثيرة، وهو ما يمكن تسميته «الخطابات المتوازية» أي تلك الخطابات التي تسير بالتوازي بعضها مع بعض، من دون تراكمٍ ومن دون تقاطعٍ، وأحيانا بتناقضٍ، ويمكن استحضار بعض الأمثلة هنا بشكلٍ سريعٍ، فمثلاً ثمة خطابان متوازيان لهذه الجماعات، واحدٌ للتثوير، وصناعة الثورات والانقلابات والتفجيرات والاغتيالات والجهاد والتكفير ونحو ذلك، وآخر للحراسة، بمعنى حماية الماضي؛ لأنه ماضٍ بوصفه منجزاً ومقدساً بحدّ ذاته، كحراسة العقيدة أو الفضيلة أو نحوهما من أنواع الحراسة، وتحت كل واحدٍ من هذين الخطابين عشرات الكتب والمؤلفات والمحاضرات والندوات والمقالات والفتاوى والمواقع الإلكترونية، ومؤخراً الاستخدام المنظم لبعض وسائل التواصل الاجتماعي.
ومثالٌ آخر، يتمثل في خطابين متوازيين آخرين، أحدهما يتحدث عن الإسلام المكّي والآخر عن الإسلام المدني، نسبة لمكة المكرمة والمدينة النبوية، لا باعتبار «المكي» و«المدني» يعبران عن مرحلتين تاريخيتين معروفتين في كتب التراث وعلومه كالتفسير والحديث والفقه؛ بل باعتبار كلٍّ منهما يمثل خطاباً سياسياً ذا أولوياتٍ مختلفة تماماً عن الآخر، فهو تفريق ينطلق من حاجة هذه الجماعات وفروعها في كل بلدٍ ودولة ومجتمعٍ للوصول إلى السلطة، فمرة يستخدمون خطاب الإسلام المكي، ومرة يفضلون خطاب الإسلام المدني، والتأرجح بين هذين الخطابين المتوازيين والتقلب بينهما يتمّ بناء على مصلحة الجماعة في الوصول إلى السلطة، دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
بعض الجماعات قد لا تكون سياسية بشكل مباشرٍ، ولكنها تشكل قوة منظمة تتسم بالتطرف، كبعض الجماعات السلفية غير المسيسة بشكل مباشرٍ، أو تتسم بقوة التجنيد كجماعة التبليغ، أو تتسم بالتأثير وسهولة الاختراق كبعض الطرق الصوفية، وعموماً يجدر التفريق هنا بين نوعين من التطرف: التطرف المعارض للدولة والتطرف الموالي للدولة، والخلافات بين التطرفين ليست عميقة؛ بل في مسائل معينة يمكن حين يتغير الاجتهاد فيها -وهي مسائل فرعية سهلة- أن يلتئم التطرفان بعضهما مع بعض ليشكلا جبهة واحدة، ولئن كان التركيز على هذه الخلافات من بعض الدول في بعض المراحل مفيداً تكتيكياً في لحظات المواجهة الساخنة، فإنه بالغ الضرر استراتيجياً على المدى الطويل، وكم تخسر المجتمعات والدول حين تستجلب أفكاراً قديمة في ظروفٍ متباينة، لخدمة أهدافٍ جديدة ومراحل تاريخية مختلفة وأولويات سياسية واجتماعية حديثة وبعيدة كل البعد عمّا مضى.
الأمثلة مهمة في هذا السياق وهي تنير الطريق وتفتح أبواب الحوار الجاد والجدل المثمر، ولنأخذ فكرة «تكفير» الدولة والمؤسسات الأمنية أو الدينية والتيارات المخالفة للمتطرفين والمجتمعات بشكلٍ عامٍ، فهي في الأصل فكرة واحدة، وإن اختلف التنظير لها والتعبير عنها وأساليب الترويج والحشد بحسب الجماعة التي تتبناها، والمجتمع المستهدف وثقافته، وطبيعة الدولة وقوتها، وحجم اختراق هذه الجماعات لها، فقد يتمّ ذلك عبر مفاهيم مثل «الحاكمية» و«الجاهلية» ذات المصدر القطبي، نسبة لـ«الإخواني» المتطرف سيد قطب، وقد يتم الترويج لها عبر مفاهيم «الشريعة» و«الولاء والبراء» ذات المصدر السلفي، والنتيجة واحدة؛ لأن التطرف ملة واحدة.
كتب الدكتور الرميحي أن «مجمل ما قاله ابن بجاد حقيقي، ونقاشه مهم في مجتمعاتنا، ولكن الوصفة التي تعالج هذا الموضوع -وإن كُتبت وشُرحت من مهتمين- لم يُشرع في تنفيذها». وهذا صحيح بشكل عامٍ، ففهم هذه الجماعات وخطاباتها وتنظيماتها وأفكارها ومفاهيمها يحتاج إلى مراكز دراساتٍ متخصصة، وباحثين بارزين يراكمون المعرفة، ويرسمون التصور الصحيح والتوصيف المحق، ويمهّدون الطريق لرسم حلولٍ عملية، وأيضاً برامج تنفيذية للخروج من هذا الانسداد التاريخي في مواجهة ظاهرة بهذا الحجم والتأثير.
مهمٌّ جداً ما ذكره الدكتور الرميحي عن مسؤولية «التعليم» و«الإعلام» و«التواصل الاجتماعي» في مساعدة هذه الجماعات والخطابات والترويج لها، وتهيئة الساحة لأفكارها ومفاهيمها، وسبب ذلك في الأساس الجهل واللهاث المستمر خلف «المشاهدات» و«الإعلانات»، وكل ما يليق بأولويات تاجرٍ لا بأولويات دولة ومجتمعٍ.
كتب الرميحي قائلاً إن «مشروع الإسلام الحركي السياسي فشل... وبقي المشروع الثقافي الذي لا يفتأ ذلك الكم من معتنقي الإسلام الحركي يدعون من خلاله، ويصرّون على اختراقه». وهذا أحد أكبر المخارج التي وجدتها هذه الجماعات لنفسها ولأتباعها، بحيث ينخرطون في المشروعات الكبرى ذات العناوين المهمة والتي يدعمها إجماعٌ وطنيٌّ، وينخرطون فيها موظفين وقادة، ويحرفونها عن المساس بالجماعة وأفكارها، لتتجه نحو عناوين حديثة لا تُفشل رؤية الجماعة، ولا تقضي على فكرها ومفاهيمها، فيتحدثون عن التنمية والتطوير ويستخدمون «وسائل التواصل»، ويصبحون «مؤثرين»، ويستثمرون في «البودكاست»، وتدون عجلات قطارات هذه الجماعات على قضبانٍ جديدة من عناوين فكرية ووسائل إعلامٍ وتواصل اجتماعي، وتبنى الشبكات التنظيمية الجديدة بطريقة تتعايش مع الأوضاع المستجدة.
من دون علمٍ ومعرفة تبنى وتتراكم، ومن دون تجربة ترسخ وتتحول لخبرة، ومن دون مؤسساتٍ فكرية وثقافية تعنى بنشر ذلك كله، وتحويله لوعي مستقرٍ وثابتٍ، يتم نشره على المستويات كافة، وتعميق تأثيره وترويج مخرجاته، فإن المعركة الطويلة مع هذه الجماعات ستطول أكثر.
أخيراً، فهناك كثير من الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تثيرها مقالة الدكتور الرميحي، وهي جديرة بأن تحظى بما يليق بها من نقاشاتٍ وطروحاتٍ، ومن رؤى ومشروعات وحلولٍ ترسم منارات طريقٍ طويل نحو المستقبل، وتكون بشجاعة الجيل الجديد نفسه، وبحجم طموحه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مع الرميحي الخطابات المتوازية مع الرميحي الخطابات المتوازية



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة
المغرب اليوم - تصعيد جديد من رئيس كولومبيا ضد الولايات المتحدة

GMT 01:12 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين
المغرب اليوم - ماكرون وعباس يعلنان تشكيل لجنة لصياغة دستور فلسطين

GMT 02:56 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع
المغرب اليوم - دفاع عمرو دياب يطعن بالنقض على حكم الشاب المصفوع

GMT 02:06 2025 الأربعاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع
المغرب اليوم - الرئيس الإيراني يؤكد لا يمكن الحكم والشعب جائع

GMT 02:03 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منى أحمد تكشف أن لكل برج ما يناسبه من الأحجار الكريمة

GMT 14:24 2016 الإثنين ,06 حزيران / يونيو

"السياسة العقارية في المغرب " ندوة وطنية في طنجة

GMT 07:52 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

موسكو تستضیف منتدي اقتصادی إیراني -روسي مشترك

GMT 05:10 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هيئة السوق المالية السعودية تقر لائحة الاندماج المحدثة

GMT 07:31 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

طرح علاج جديد للوقاية من سرطان الثدي للنساء فوق الـ50 عامًا

GMT 23:39 2012 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر: تزويد المدارس بالإنترنت فائق السرعة العام المقبل

GMT 08:26 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا قدمتم لتصبحوا صحفيين وناشطين؟

GMT 00:26 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة المنشط الإذاعي نور الدين كرم إثر أزمة قلبية

GMT 02:33 2014 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

"رينود" يتسبب في تشنج الأوعية الدموية لأصابع اليدين

GMT 00:25 2017 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

مي عمر تؤكّد أهمية تجربة عملها مع عادل إمام

GMT 09:51 2016 السبت ,10 كانون الأول / ديسمبر

بشرى شاكر تشارك في مشروع طاقي في ابن جرير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib