«بي بي سي» جذور فضيحة

«بي بي سي»... جذور فضيحة

المغرب اليوم -

«بي بي سي» جذور فضيحة

أمير طاهري
بقلم : أمير طاهري

ذكّرني آخر جدل بشأن تحرير مؤسسة «بي بي سي» لمقطع إخباري لاتهام الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإصدار أمر بالهجوم على مبنى «كابيتول هيل»، (مقر الكونغرس الأميركي)، في واشنطن العاصمة في 6 يناير (كانون الثاني) 2021 بالسرد الفولكلوري للأحداث التاريخية أو الأسطورية خلال فترة طفولتي في إيران.

كان العرض عبارة عن شاشة تعرض حدثاً، فيما تقف شخصية الراوي صغيرة الحجم في ركن تعضّ إصبعها رَهَباً أو إعجاباً.

سوف يسرد الراوي الحقيقي القصة من دون تعليق، ناهيك بالانحياز إلى طرف في مواجهة آخر.

هل كان في ذهن الحكومة البريطانية ذلك النموذج عندما أنشأت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عام 1922 مع تعيين جون ريث مديراً عاماً لها؟ كان ذلك النموذج يتناقض مع أسلوب تشوسر في رواية كانتربري تيلز «حكايات كانتربري»، التي تعدّ من الأعمال الكلاسيكية في الأدب الإنجليزي، والتي كان يطلق فيها الراوي وابلاً من التعليقات المبهجة المشاغبة.

وبهذه الطريقة وُلدت أسطورة «بي بي سي» مثالاً للصحافة الإكلينيكية الباردة التي تمثّل هدفها في إعلام الجمهور من خلال تقديم مائدة متنوعة عامرة بالأخبار والآراء والأفكار والخيارات الثقافية الاجتماعية السياسية. وتكمن المشكلة في عدم إمكانية وجود صحافة إكلينيكية باردة إلا كحالة غرور نظرية. الصحافة إنتاج وممارسة بشرية، وليست من صنع روبوتات، أو ما يُدعى الآن ذكاء اصطناعي.

حتى إذا التزم المرء الأسئلة الستة الشهيرة، التي تبدأ بـ: مَن؟ وماذا؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ وكيف؟ التي يتم من خلال استخدامها بهذا الترتيب نقل الحدث، فإن نبرة الحديث تتباين من مراسل إلى آخر. ولأنه إنسان فلا يمكن للصحافي التزام الحياد، الذي تظاهرت أسطورة «بي بي سي» بتطبيقه، على غرار خمس دقائق لهتلر وخمس دقائق لليهود.

فلنتذكر بعض الحقائق...

من السهل تصور فكرة الجدار الحديدي الذي يفصل الأخبار عن الآراء، لكن من الصعب إقامته. إن «بي بي سي» مؤسسة تشرف عليها دولة، وتحصل على تمويل حكومي، ولا يتجاهل ميثاق العمل الخاص بها، على الأقل نظرياً، مصالح حكومة جلالة الملك. إضافةً إلى ذلك، فإنها تعبّر أيضاً عن مزاج النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية في عصرهم. وعلى مدى أغلب سنوات وجود «بي بي سي»، التي تبلغ 103 أعوام، اتجه هذا المزاج نحو ما يسمى الحق الليبرالي في الثقافة السياسية البريطانية.

ربما كان لنشرات جون بوينتون بريستلي الإذاعية على «بي بي سي» خلال الحرب، تأثير مدعّم منشّط على الجمهور البريطاني بقدر ما كان لخطب ونستون تشرشل. ومع انتهاء الحرب، كان مصير بريستلي، مؤلف المسرحية المبهرة «إنسبيكتور كولز»، «زيارة المفتش»، هو الطرد لاعتباره يسارياً.

مع ذلك، الأمر الملحوظ هو أن «بي بي سي»، في أشكالها المتنوعة من إذاعة محلية وقومية ودولية وتلفزيون وأخيراً الخدمات الإخبارية عبر الإنترنت، قد تمكنت من الحفاظ على معايير ظلت موضع حسد وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم. وتظل تغطيتها للثورات في روسيا والصين، والحرب العالمية الثانية، وحروب في كوريا والهند الصينية (شبه جزيرة في جنوب شرقي آسيا تقع جنوب الصين وشرق الهند) والجزائر، والشرق الأوسط، وشبه القارة الهندية، وتأسيس عصبة الأمم والأمم المتحدة، وحركة القضاء على الاستعمار، وسقوط إمبراطوريات... بمثابة سجل تاريخي ممتاز لأحداث قرن تسوده الفوضى.

الثابت أيضاً أن «بي بي سي» كانت مثل خيمة كبيرة تتسع لاستضافة أشخاص من أغلب ألوان الطيف السياسي؛ بدءاً بالشاعر لويس ماكنيس، والروائي جورج أورويل، وصولاً إلى كبار الصحافيين مثل جون فريمان، الذي تصادف كونه مؤسس برنامج «بانوراما»، الذي تعرَّض فيه ترمب مؤخراً إلى القذف والتشهير، وديفيد ديمبليبي، وبراين ريد هيد، وماكس هاستينغز، وأندرو نيل، ومات فراي، وكيت أدي، وليز دوسيت، وإليزابيث كويل، أول امرأة تصبح مذيعة.

كذلك أنتجت المؤسسة كنزاً من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، فضلاً عن الأفلام الوثائقية. ومع ذلك، لعدة أسباب، شهدت معايير «بي بي سي» تدهوراً بطيئاً، لكنه مستمر على مدى عقود. السبب الأول هو «متلازمة الصحافة الاستقصائية».

بدأ ذلك عام 1972 عندما كشفت صحيفة «صنداي تايمز» عن الضرر الذي يُلحقه استخدام أقراص عقار الـ«ثاليدوميد» بالأجنّة استناداً إلى حقائق وردت إلى الصحيفة من جانب منافسين من شركة أدوية عملاقة. بعد عامين جاءت النسخة العابرة للأطلسي عندما ساعد صحافيان «استقصائيان» على إسقاط رئيس أميركي. لم يكن هناك تحقيق أو استقصاء، بل تسريب لمعلومات من جانب خصوم سياسيين للرئيس ريتشارد نيكسون. لو لم يقدم «الحلق العميق» (اسم مستعار للشخص الذي أثار القضية)، الذي كان على خلاف مع نيكسون، تلك المعلومات، ما كان ليصبح لقصة البطلين أي محتوى.

فجأة أصبح كل صحافي يرغب في أن يصبح محققاً قاتلاً للعملاق ومشاركاً في صناعة الأحداث لا نقلها فقط. وبدأ الصحافيون الحديث عن تأليف «قصة» بدلاً من نقل «خبر». وأصابت المهنة آفة أخرى هي صناعة شهرة الصحافيين. وعمّقت الهيمنة المتزايدة للتلفزيون تلك العلّة، إذ أصبحت «بي بي سي» تضع صوراً لصحافيين ومقدمي برامج نجوماً على القمصان الرياضية والأكواب وسلاسل المفاتيح. وكان ذلك بمثابة نهاية لتقليد عدم ذكر الأسماء في الصحافة البريطانية، والذي كان يوجب عدم ذكر أسماء الصحافيين والمراسلين، والاكتفاء بذكر عبارة «من مراسلنا» أو «محررنا السياسي». أصبح بعض الصحافيين، الذين تحولوا إلى مشاهير، أكثر سطحية وضحالة، وكلما ازدادت سطحيتهم وضحالتهم، ازدادوا زهواً وغروراً.

كانت الخطوة التالية هي تغليف الغرور بغلاف لطيف وتقديمه كمقابلات «متحدية» أو «مثيرة للجدل» والتي كانت تركز على وقاحة وفظاظة المحاور أكثر مما تركز على صراحة الضيف. وأصبحت عبارة «لقد أبليت حسناً، فقد أفحمت الرئيس أو رئيس الوزراء» بمثابة وسام تقدير لجيل جديد من صحافيي «بي بي سي» الذين باتوا نجوماً يتقاضون أجوراً مرتفعة جداً.

في الحرب الأهلية الثقافية الحالية في الدول الديمقراطية الغربية، تتجه نخبة «بي بي سي» نحو ما يطلق عليه اليمين الناهض «ووكيزم»، (الوعي بقضايا الظلم الاجتماعي والتمييز العنصري والجنسي). لذا ليس من المفاجئ أن يكون ترمب أحدث وحش أسود (شخص مكروه) تقدمه «بي بي سي». كذلك ليس من المفاجئ انحيازها إلى أي ضحية حقيقية أو متخيَّلة للـ«استعمار» والـ«إمبريالية» والـ«شوفينية الذكورية» و«تفوق العرق الأبيض»، مهما كانت تعنيه تلك المصطلحات.

لقد وصلت «بي بي سي» اليوم إلى مستوى متدنٍّ جديد، طبقاً للمعايير التي ظلت تدعمها لعقود. توضح فضيحة برنامج «بانوراما» أن «بي بي سي» بحاجة إلى نظرة فاحصة عاجلة على الأقل، إن لم يكن إلى مراجعة شاملة. مع ذلك علينا أن نكون حريصين على عدم التخلي عن «بي بي سي» في أثناء محاولة التصدي لتلك الأمور السلبية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«بي بي سي» جذور فضيحة «بي بي سي» جذور فضيحة



GMT 16:06 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

العرب عربان

GMT 16:05 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أبعد من "عفو" رئاسي جزائري…

GMT 15:12 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغةُ العربية... إنقاذٌ أمِ انغلاق

GMT 15:11 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب والتهديد بقطع الأموال

GMT 15:10 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

تلميع إسرائيل بالذكاء الاصطناعي

GMT 15:07 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران... سباق الـ«بيريسترويكا» والبوعزيزي

GMT 15:06 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

كازاخستان وإسرائيل.. ما الجديد؟

GMT 15:04 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الفرق بين التاريخ والفتاوى

أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 02:57 2025 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة الحرب جعلت سلوك أطفال غزة أكثر عدوانية
المغرب اليوم - الأمم المتحدة الحرب جعلت سلوك أطفال غزة أكثر عدوانية

GMT 06:19 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن أكثر الآلام للسيدة الحامل وطرق علاجها

GMT 06:16 2019 الأربعاء ,02 كانون الثاني / يناير

أبرز السيارات التي سيتم وقف تصنيعها في 2019

GMT 20:18 2018 الأربعاء ,30 أيار / مايو

خمس فتيات يجرين عمليات تجميل ليصرن هيفاء وهبي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib