الرئيسية » مراجعة كتب

الدوحة ـ وكالات

تغيرات عميقة اجتاحت المجتمع الصيني عقب الثورة الثقافية، أثّرت بشكل كبير في حياة الناس، بحيث قلبت المعايير، إذ تمّ اللجوء إلى التصفية والانتقام والإذلال والتقييد والتضييق على مَن اعتُبروا مناوئين للثورة. بعض تلك التغيّرات يرصدها الصيني مو يان* (1955) الحائز جائزة نوبل للآداب 2012، في روايته 'الحلم والأوباش'، (ترجمة محسن فرجاني، العين، القاهرة 2013). يقدّم مو يان ملامحَ من حياة الريف الصينيّ في النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً إلى الثورة الثقافيّة الصينيّة (1966-1967). يحكي حكاية الطفل شوكن، الذي يعني اسمه جذر الشجرة، في قريته النائية في عمق الريف الصينيّ، يفصح عن قدرته المدهشة على الحلم بالكثير من الأمور الفظيعة التي تتحقّق لاحقاً، وكأنّها تقوم بالتطابق مع حلمه السابق لها، وكأنّما الحلم لديه يقود الواقع، ينذر ويبشّر في الوقت نفسه، 'يمرئي' له ما يمكن أن يحدث، يستعيد ما حدث، يقوم بدور المنتصر له. يتحقّق الفتى عبر أحلامه من أحداث ماضية، يستجليها ويعيد اكتشافها وفكّ الغموض الذي تلبّسها حينها، ويتنبّأ بالكثير من المجريات اللاحقة. يشتهر في المنطقة، يغدو مثار حديث الناس وموضع تندّرهم في بعض الأحيان، مما يدفعه إلى التكتّم على أحلامه فيما بعد، والتغافل عمّا تنبئه بها أو عمّا تحذّره منها. دائرة الأوباش الحلم يشكّل القاعدة التي يبني عليها شوكن عالمه، يخطّط على إثره ما سيقوم به، يحاول أحياناً تحدّيه، يتمنّى في بعض الأحيان أن تكذب أحلامه أو تكون مزيّفة مخادعة، ولا سيّما تلك التي تتعلّق بذويه، والتي تجْلده بخطورتها حين تتحقّق وتنعكس سلباً عليه وعلى أسرته. أمّا الأوباش في الرواية، فيحضرون متجسّدين في السلطات، بدءاً من السلطة الأسريّة كأصغر دائرة قمع يقابلها شوكن وتفرض عليه إرادتها وتقيّده بتعليماتها، السلطة المتجسّدة بالجدّ والجدّة، الجدّة تسخر منه ومن تركيبة جسمه الغريبة غير السويّة، وبخاصّة رأسه الضخم بالمقارنة مع جسده الضئيل، وجدّه الذي لا يسمح له في غالب الأحيان بمشاركته وجبات طعامه من أسماك القريدس والجمبري التي يصطادها. تتوسّع دائرة الأوباش لتشمل السلطة التالية المتمثلة برجل الدين الغريب المبشّر مورويا الذي يتخلّى عن رسالته ورهبانيّته ويتزوّج بامرأة صينيّة ينجب منها طفلة، لكنّه لا يستطيع تربية طفلته لأنّه يموت جرّاء مرض يلمّ به، وكذلك تموت زوجته، فتتبنّى أسرة شوكن الطفلة، وتطلق عليها اسم شويا، وترعاها كابنتها. سلطة مورويا تقتصر على بعض التعليمات، وتبدو أقلّ تأثيراً من سلطة الأسرة، كما تبدو متخبّطة بين الولاء للتعاليم الدينيّة والالتفات للغرائز البشريّة، بحيث يؤثر التخلّي عن السلطة الدينيّة الممنوحة له مقابل الحياة البسيطة، ولا يكون ذلك إلا للتمهيد للسلطة القادمة التالية التي كبّلت الجوانب الدينيّة، وأعلنت ثورتها الثقافيّة بهجر كلّ الرموز والإشارات الدينيّة، وإحلال التعاليم الاشتراكيّة التي زعمت العمل بها وتطبيقها محلّها.. انتحار بطيء بمرور السنين تكبر الطفلة شويا، تتعلّق بشوكن تعلّقاً رهيباً، تكون نموذج الإنسان الهجين، مختلفة عن الآخرين نضرة جميلة ذكيّة، تكتشف أنّها أيضاً تمتاز بمقدرتها على التنبّؤ بالمستقبل عبر الأحلام، وتكون تلك بمثابة النعمة والنقمة في الوقت نفسه لها أيضاً. تتشارك مع شوكن أحلامه وكوابيسه، تستمتع باللعب معه، تبدو مشرقة حين تكون برفقته، تقصد معه المدرسة بعد إرسال السلطة الجديدة مدرّسة إلى القرية لافتتاح المدرسة فيها، وإلزام الناس بإرسال أبنائهم، وكان التعليم الإلزاميّ فرصة لاكتشاف الآخرين والمحيط. ولأنّ الأسرة البسيطة لم تستطع النهوض بأعباء إكمال شويا وشوكن كليهما للدراسة، آثرت إرسال شوكن لإكمال دراسته الثانوية ومن ثمّ الجامعيّة، في حين اختارت شويا التضحية والعمل للقيام بواجبات البيت، ولم تلتفت إلى محاولات الجدّة المستمرّة لإزعاجها. اختارت شويا طريقة لإعالة الأسرة التي تبنّتها، كانت بمثابة انتحار بطيء لها. وذلك بسرقة الحبوب من المركز الذي تعمل فيه مع نساء القرية، حيث الطاحونة التي يعملن فيها، والتي توزّع أقساطاً غير كافية على القرويّين ما يدفع النساء إلى سرقة بعض الحبوب لسدّ الحاجة والجوع، وتحدث أثناء ذلك الكثير من المفارقات المريرة الساخرة. تركّزت طريقة شويا لنقل الحبوب وفول الصويا، بحيث تتخطّى الحراسة المشدّدة والتفتيش الدقيق الذي كانت تتعرّض له كغيرها، بابتلاع كمّيّات ترهق معدتها، وحين تصل إلى البيت تتقيّؤها ثمّ تمرّرها بمرحلة الغسيل والطحن ومراحل التنظيف والعجن لتصبح وجبات لذيذة فيما بعد. كان الفتى شوكن بدوره متعلّقاً بشويا، يتّفق معها على الزواج، لكنه يؤجّل الخطوة لحين إنهائه من الدراسة، في حين أنّ الفتاة تبدو متلهّفة وكأنّها في سباق مع الزمن، تصرّح له برغبتها في إتمام الزواج سريعاً، ولا تملك أيّ خيار أمام تأجيل شوكن لذلك. وتكون الصدمة حين اكتشافها أنّ المرض الفتّاك بدأ ينهش جسدها، إذ إنّ الكميات الكبيرة التي تبتلعها ثمّ تستفرغها تؤثر على أحشائها وأمعائها، بحيث أنّ معدتها تفرغ كلّ ما يصل إليها، ويكون ذلك إنذاراً خطيراً لهما. تخبره أنّه ما عاد يستقرّ شيء في جوفها منذ أن لجأت إلى تكديس معدتها بالحبوب المسروقة واجترارها مراراً، فوصلت بها الحال إلى أن يندلق الطعام من معدتها بمجرّد أن تميل برأسها أو تفتح فمها على اتّساعه دون حاجة على الإطلاق إلى استثارة حلقها بالعصا الخشبيّة. ويحلم شوكن حلمه الأقسى والأكثر وحشيّة، يحلم بموت شويا، فيسارع إليها في القرية، ليُصدَم بتجمهر الناس على الجسر المؤدّي إلى القرية، وتحلّقهم حول جثة منتشلة من النهر، يفجَع بأنّها جثة شويا، ولم يستطع إنقاذها ولا الحؤول دون تحقّق حلمه المُفجِع. تفكك السلطة يحكي مو يان كيف أنّ الجوع يظلّ أكثر الأوباش تدميراً لأجساد الناس وأرواحهم، ولا يجدي معه الحلم بتبديده لأنّه يودي بتوحّشه وتغوّله بالكثيرين. كما يصوّر كيف أنّ تفكّكَ السلطة أفسح الطريق لتكبيل الحياة العامّة كلّها، وفرض نوعاً من السلطة الشموليّة، بحيث صدّرت الثورة المعلنة أزلامها، وغيّرت التركيبة الاجتماعيّة، فرضت العمل والجِزى على الناس، خصّصت المعونات وحدّدتها لدرجة كبيرة، وتغاضت عن ممارسات الكثير من أتباعها الشائنة، بحيث مارس أولئك التابعون سياسة الانتقام من رموز الماضي، في سعي لإذلالهم وتفقيرهم ودفعهم إلى التهلكة رويداً رويداً كنوع من الانتقام التدريجيّ. يستعين مو يان بالذاكرة الشعبيّة والفلكور الصينيّ لنسج روايته، بحيث يعثر القارئ على الكثير من العادات والطقوس الخاصّة، وكأنّ الكاتب بصدد تقديم صورة مغرقة في محلّيتها في حلّة روائيّة، وذلك بطريقة مناورة ومواربة، بحيث يكون انتقاده للسلطات كلّها حاّداً لكن غير مباشر، وتكون الحدّيّة غير المباشرة وسيلة للالتفاف على القيود التي كبّلت بها الثورة حياة الناس وقضت على أحلامهم بإطلاق الأوباش من القماقم وتجاهل انتقاماتهم وممارساتهم اللامسؤولة. * يُذكَر أنّ مو يان هو اللقب الذي اختاره الكاتب، واسمه الحقيقيّ 'كوان مو يا'، ولقبه يعني الزجر بالصمت، امتثالاً لفضيلة استحسان السكوت في زمن المتاعب الجاهزة لمن يتكلّمون. ولعلّ ذلك يشير إلى تحدّيه بالرواية البوّاحة التي يغطّي بها على صمته الواقعيّ واحتجاجه المغيّب ضدّ ممارسات السلطات الصينيّة مع المعارضين، وفي الكثير من المواقف والمراحل. كما يُذكر أنّ لمو يان العديد من الأعمال الأدبيّة، منها: 'الذرة الرفيعة الحمراء'1987، (ترجمت مؤخّراً إلى العربيّة)، 'أناشيد الثوم' 1988، 'جمهوريّة الخمر' 1992، 'صدور ممتلئة وأرداف كبيرة' 1996، 'مكابدة الحياة والموت' وغيرها من الأعمال. وقد نال عدّة جوائز توّجت بجائزة نوبل 2012.

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

إصدار جديد يقارب حصيلة الدراسات الأمازيغية في المغرب
مؤلف يرصد البرلمان المغربي في ظل ثلاثة ملوك
رواية "وجوه يانوس" تقود أول امرأة إلى رئاسة الحكومة…
ديوان شعري أمازيغي يدعم مرضى السرطان الفقراء
أول عدد من "مجلة تكامل للدراسات" يرى النور

اخر الاخبار

تعاون مغربي موريتاني لتعزيز اللامركزية والتنمية المحلية
أمير قطر يبحث تطورات المنطقة مع الرئيس الإماراتي في…
ترامب يدرس تعيين ستيفن ميلر مستشاراً جديداً للأمن القومي
قوات الدعم السريع تشنّ أول هجوم على بورتسودان

فن وموسيقى

كندة علوش تعلن شغفها بالقضايا الإنسانية وتكشف رغبتها في…
دنيا بطمة تؤكد أنها لم أنَل حقها في المغرب…
إليسا تشعل 2025 بمفاجآت فنية وألبوم جديد بعد تألقها…
هند صبري تتألق في بيروت وتتوج بجائزة الإنجاز الفني…

أخبار النجوم

أحمد سعد يكشف عن سعادته بالانضمام الى مجموعة روتانا…
نيكول سابا تكشف عن جوانب خفية من حياتها الشخصية
نجوى كرم تواصل الترويج لألبومها وتكشف عن اسمه
ماجد المصري يُشارك يسرا في عمل فني للمرة الأولى

رياضة

المغربي أشرف حكيمي مرشح لجائزة أفضل لاعب إفريقي في…
هاري كين يقترب من لقب هداف الدوري الألماني للموسم…
محمد النني يتوج بجائزة جديدة في الدوري الإماراتي
نيمار يضع حجر الأساس لمشروع رياضي ضخم في البرازيل

صحة وتغذية

إجراء أول عملية استئصال للبروستات باستخدام الروبوت الجراحي عن…
القهوة تحارب الضعف الجسدي لدى كبار السن وتحسن القوة…
علاج فقدان السمع في مراحله المبكرة قد يساهم في…
دراسة صادمة تؤكد أنّ دمى الأطفال أكثر تلوثا من…

الأخبار الأكثر قراءة