الرئيسية » عالم الثقافة والفنون

الرباط - المغرب اليوم

بدأ بول غوغان كتاب مذاكراته “نوا نوا مذكرات تاهيتي” بسؤال طرحه الناقد الفني العظيم شارل بودلير “قل لي ماذا رأيت؟”

رأيت جسدا يحمل عبئا، يبدو كشبح وهو يشتبك بغيره يعانقه أو يدهسه، رأيت جسدا محاصرا بالمربعات الضيقة والحواجز تكاد تقسمه قسمين… جسد يقاوم ليتخلص من الفخاخ التي تصطاد جمجمته… ليتحرر من الشباك التي تعوق حركته.

رأيت ذلك في معرض ماحي بينبين في معرضه بمدينة مراكش بين 26-12-2020 ومارس 30-03-2021. كانت مراكش في بداية مارس دافئة لكن الحركة فيها ضعيفة، مراكش مدينة ساهرة تستمد قوتها من حرية حركة البشر. مدينة حية لا يناسبها لا الحجر الصحي ولا التباعد الاجتماعي ولا حظر التجول الليلي… مدينة اجتماعية حيوية تستمد هويتها من نقيض متطلبات زمن كورونا، والنتيجة مدينة مهجورة.

كان المعرض فرصة رائعة للكتابة عن لوحات طالما أحببتها، لوحات ذات لغة بصرية متميزة تُعرف عن بعد ببصمتها، لغة بصرية يحتل الجسد مركزها باستمرار.

يهيمن حضور الجسد على لوحات ومنحوتات الفنان ماحي بنبين، الجسد كيان الفرد وجغرافيته، ويجري رسم الجسد باقتصاد في الخطوط، اقتصاد في الألوان… هناك نحت وحذف… وهذا يجعل اللوحة تتشكل من أقل العناصر الممكنة لرسم الأشكال وتوصيل الدلالة للمشاهد.

رأيت في المعرض تماثيل عبارة عن تجميع برونز وحبال وحديد مربع ومستطيل ودائري. لقد درَس ماحي بينبين الرياضيات ودرّسها، ويظهر هذا في لوحاته. يقرب المنظور الفن من الرياضيات. فالشخصيات محتجزة في دوائر ومربعات ومستطيلات.

وتظهر الشخصيات مقاومة للتخلص من هذه الأشكال الهندسية وذلك بإخراج القدم أو الرأس من الإطار… رأيت عناقا أشبه باشتباك جسدين، جسد يحاول إنقاذ آخر من عنق زجاجة، أيد على الأوجه لتعكس أحاسيس مختلطة، أجساد تدور في دوامة لا تظهر بدايتها من نهايتها، أجساد تتعانق فتصير جسدا واحدا كعشاق، جسد كبير في قفص صغير، شخصان ظهرا لظهر، وكل واحد ينظر في كتاب كأنه مرآته… لا تواصل بينهما.

رأيت ووقفت بجانب أجساد مزدحمة تتشابك في وضع بشري صعب، ترفع أيديها في وجوه بعضها البعض… حتى حين يكون هناك جسدان في تواصل حميمي فهما يستمتعان على ظهر جسد شخص آخر.

في بعض اللوحات أجساد مرسومة بأقل عدد من الخطوط، مما يجعلها تبدو كأشباح… في بعض اللوحات رسم لم يبلغ مرحلة اللوحة التشكيلية، إنه رسم دون تلوين. هذا أساس لكل لوحة.

يقول جان أوغست دومينيك آنغر “لا لوحة جيدة بدون رسم جيد”.

إن هذه اللوحات تعبر باقتصاد، تستخدم خطوط الجسد وهو معاير للوضع البشري. الجسد هو الحد الأقصى للتجربة الإنسانية. حسب موسوعة لالاند ص 1141 فإن “كل الإدراكات تجري على مثال الإنسان لا على مثال العالم”. لذلك يتخذ الفرد جسده معيارا لقياس الطقس والأحاسيس. ونجد في لوحات بنبين لوحات على مقاس واحد على واحد. لوحات بحجم كبير، غالبا ما تزيد عن مترين وحتى أربعة أمتار مربعة مما يمنح الجسد فضاء كبيرا للتعبير عن حركيته. وثيقة هي العلاقة بين حركة الروح وحركة الجسد، وحركات الجسد أكثر تأثيرا من البراهين.

 

لكي يرسم بنبين الأجساد عليه أن يراقبها بدقة. أن يعد الكثير من الخطاطات المسبقة، الرسم أساس التشكيل. في محاضرة في متحف اللوفر تستشهد أستاذة الجماليات وفلسفة الفن السيدة جاكلين ليشتميتاين Jacqueline Lichtenstein بقول يوهان غوته “ما لم أرسمه لم أفهمه”.

وهذا التحديد مدخل أساسي في التعليم والفن.

ما علاقة هذا بالكتابة للسينما وعنها؟

أولا يشتغل ماحي بنبين على الجسد، وجسد الممثل هو المادة التي يشتغل عليها المخرج وتصورها الكاميرا. يتساءل المخرج والمنظر السينمائي البولندي زيغمونت هبنر Hubnera Zygmunta “: “كيف للمخرج أن يكون مخرجا ومعرفته بلغة الجسد ضئيلة؟ وهي الوسيلة الأدق والأكثر مباشرة للوصول، إنها وسلة الاتصال مع الممثل”.

وهذا لم يبدأ منذ قرن فقط، بل لقد اشتغل الرسامون على الجسد لآلاف السنين قبل أن تظهر الكاميرا. حتى الرجل المائل الذي قدمه النحات ألبيرتو جياكوميتي (The man who capsizes 1950) مقتبس من رسوم كهوف ما قبل التاريخ…

ثانيا، يمكن للرسومات التحضيرية في التشكيل أن تفيد كثيرا المخرجين وهم يحضرون ستوري بورد Storyboard أفلامهم. لإعداد سيناريو مصور لا بد من ثقافة تشكيلية. ومن يشاهد ويقارن رسومات ليناردو دافينشي للخيل وفيلم “سبيريت: حصان من سيمارون” 2002 سيدريك كيف يمكن للرسم أن يخدم السينما.

ثالثا، دون تشكيل لا يستطيع الناقد السينمائي القادم من الأدب أن يتخلى عن تلخيص الحكاية والتعليق على المضمون. قراءة وتحليل اللوحات هو المدخل الكبير لقراءة الأفلام.

وأعتقد أن دور شارل بودلير في الحداثة الفنية حاسم في ما كتبه عن يوجين دولاكروا. وأزعم أن أثر بودلير الناقد أكثر تأثيرا من تأثيره كشاعر بديوانه “ازهار الشر”. ومن المؤسف أن كتابات بودلير النقدية لم تترجم إلى اللغة العربية، وهذه خسارة للنقد الفني.

لقد نبع اهتمامي بالتشكيل من ضرورة تجاوز الكتابة عن مواضيع الأفلام (زواج – طلاق – فقر – دعارة – انحراف – فساد…) إلى الكتابة عن أساليب التصوير والإخراج، ويستحيل هذا الانتقال من الموضوعات إلى الأساليب دون ثقافة بصرية.

لقد منع التصوير في المجتمعات الإسلامية لأن المنازل التي تدخلها الصور تهرب منها الملائكة. وفي سياق التدليل على هذا التشدد روى الرحالة والصحافي مراسل نيويورك تايمز والتر هاريس في كتابه “المغرب الذي كان” 1921 أن السلطان المغربي صبغ قصره بالأزرق في مدينة فاس بداية القرن العشرين فاتهم السلطان بأنه يقلد المسيحيين.

هذا مثال سار للرجعية الفنية. الصباغة بغير الأبيض تقليد للمسيحيين. وبعدها تمت إعادة تجيير القصر لرد التهمة.

وبمقابل منع الفقهاء التصوير سمحوا برسم الفسيفساء والأرابيسك وهذا مجرد زخارف جوفاء تتكرر وليست وجوها تعبر. والنتيجة فقر رهيب في الثقافة البصرية حاليا حتى لدى الأعلى تعليما في عصر الصورة هذا.

تستمد أعمال ماحي بينبين أهميتها الفنية من هذه الزاوية. فهي لا تنخرط في تمجيد التجريد لأسباب فنية تخفي نظرة دينية رجعية. لا تقول اللوحة التجريدية أو الفسيفسائية الكثير لعين المتلقي. فقير هو التجريد في الرسم واللغة.

لا يحضر الرسم الفسيفسائي في لوحات بينبين لأن الزخارف والفسيفساء ليست لوحات سردية. بينما لوحات بنبين التي ترصد الجسد في حركيته ثرية سرديا، والسرد هو الفن الذي ينتج ويعكس ويبث التخييل.

قد يهمك ايضاً :

إدغار موران يستخلص الدروس في آخر نفق الجائحة

فرقة ثفسوين من الحسيمة تقدم عرضها المسرحي الجديد "شاطارا " بالمسرح الوطني محمد الخامس

View on Almaghribtoday.net

أخبار ذات صلة

وزير الأوقاف المغربي يكشف إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة…
حصيلة الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط
عالم مصريات فرنسي يكتشف 7 رسائل سرية بجدران مسلة…
البرلمان المغربي بمجلسيه يُشارك في فعاليات الدورة الثلاثين للمعرض…
الرئيس الفرنسي يعبر عن سعادته وفخره باستقبال المغرب ضيف…

اخر الاخبار

رئيس مجلس المستشارين المغربي يُشيد بدعم برلمان أميركا الوسطى…
النعم ميارة يترأس لقاء جهوياً حاشداً للاتحاد العام للشغالين…
إسرائيل تعترف بمقتل ٧ جنود وضابط ونتانياهو يقول هذا…
وزارة الداخلية السورية تعلن أن خلية تفجير كنيسة مار…

فن وموسيقى

نيللي كريم تكشف تفاصيل إصابتها بالسرطان في وجهها وتحكي…
أحمد حلمي يُعبر عن سعادته بتكريمه في مهرجان الدار…
هند صبري تواجه حملة هجوم بسبب موقفها من قافلة…
كندة علوش تكشف عن البدء بمشروع فني جديد وتواصل…

أخبار النجوم

شيرين عبدالوهاب توجّه رسالة الى رسالة الى الملحن مدين…
دينا فؤاد تكشف كشفت العديد من أسرارها الشخصية والمهنية
حنان مطاوع تكشف عن الأعمال الفنية التي ندمت عليها…
سامو زين يكشف السبب الحقيقي لابتعاده عن الوسط الفني

رياضة

ميزانية ضخمة وأداء باهت نهاية محبطة للأهلي في البطولة
مرموش يبدأ مشوار مونديال الأندية بنكهة عربية مع مان…
فينيسيوس يحذر لاعبي ريال مدريد قبل مواجهة الهلال السعودي
كريستيانو رونالدو يُعلن موقفه النهائي من الاستمرار أو الرحيل…

صحة وتغذية

دراسة تؤكد نجاح الإنسولين المستنشق في علاج الأطفال المصابين…
لقاح جديد للرضع يحمي من الفيروس المخلوي التنفسي
علماء يكتشفون فئة دم فريدة من نوعها في العالم
انشغال الأطفال بالهواتف أثناء الوجبات قد يؤدي لزيادة الوزن

الأخبار الأكثر قراءة

محمد بن سلمان يرافق ترمب في جولة تاريخية داخل…
الرئيس السوري أحمد الشرع يبحث مع وزير الأوقاف «تعزيز…
ترامب يعلن فرض رسوم جمركية على الأفلام الأجنبية لحماية…
وزير الأوقاف المغربي يكشف إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة…
حصيلة الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب في الرباط